162

وليس يتسع هذا المقال بالضرورة للحديث عن جميع تقاليدنا التي كنا نعتنقها إلى ذلك العهد القريب، ولا عن أكثرها فذلك شيء يطول على الإحصاء، ولهذا أجرد مقال اليوم للحديث عن واحد منها، وأعني به الغناء.

وقبل أن أخوض في لجة الموضوع أنبه إلى أن مصر من أكثر الأمم، إن لم تكن أكثرها جميعا تلوينا للتغني والترنيم، فهي تتغنى بقراءة القرآن الكريم، وبالأذان للصلاة وما يتقدم أذان الفجر من أهازيج السحر، وكذلك تتغنى بالمولد النبوي الشريف، وتتغنى بالإنشاد وفي حلق الأذكار وأنت خبير بأن غناءها الرسمي هو التخت، وللعامة الغناء البلدي أو المحلاوي يوقعه موقعوه على صوت المزمار البلدي المتخذ من القصب الفارسي - الغاب.

ولا تنس غناء الصهبة وهذا خاص بجماعات الحشاشين يوقعونه في مقدمات الأعراس، وقد زاد العصر الحاضر على كل هذا المنولوج وما إليه.

أما الموسيقى الآلية فعندنا منها النحاسية المعروفة والطبل البلدي ولا زال معروفا أيضا، والنقارية أو النقرزان، وكانوا ينقرون عليه فوق ظهور الجمال بين يدي موكب العروس، ولا يزالون يضربون به في ذي المحمل الشريف، وقد زادنا للعصر الحديث الموسيقى الوترية - الأركسترا.

وقد تجاوزت ألوانا غير يسيرة من الموسيقى؛ لأن شأنها غير كبير.

وبعد فلست أدعي العلم بتقاليد كل لون من هذه الألوان، ولا بما كان يأخذ به أصحابه أنفسهم، ويلتزمونه ولا يعدونه في كبير من شأنهم ولا صغير، ولكنني أعرف شيئا من آداب بعض هذه الفنون منها ما شهدته بنفسي، ومنها ما أرويه عن الثقات الصادقين، ومن هذا وهذا ما عفى عليه الزمان، ومنها ما لا يزال قائما إلى الآن.

فمن آداب تلاوة القرآن الكريم، أو من التقاليد المرعية في ترتيله إذا صح هذا التعبير، أن قارئا له قدر ووزن لا يمكن أن يبدأ ترتيله إلا جاء في نغمة البياتي حتى إذا قضى فيها وقتا طويلا أو قصيرا، ثنى ... فلبث فيها ما شاء أن يلبث، ثم أقبل على غيرها وهكذا، لا يزال ينصب في فنون النغم كلما بدا له أو كلما توسم في إحداها الاستراحة وحدة التطريب، وقد يعود في أثناء القراءة إلى نغمة البياتي فيصيب منها أيضا ما شاء أن يصيب، وكيفما كان الأمر فإنه حين يؤذن الوقت بالانتهاء لا بد له من أن يختم بهذه النغمة، مهما يجشمه التحول إليها من النغم البعيد وكثيرا ما يكون هذا التحول سريعا وداعيا إلى الإعجاب!

فمتقدمو القراء في مصر لا يبدءون قراءتهم إلا من البياتي وبه دائما يختمون، وكذلك تسمع القرآن عن طريق الراديو من المشايخ العظام، محمد رفعت، وعلي محمود، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومحمد الصيفي، وطه الفشني وغيرهم من مشاهير المرتلين.

على أنني لا أدري من أين جاء مصر هذا التقليد، ولا متى كان مهبطه من الزمان القريب أو البعيد! ولعل ذلك يرجع إلى أن هذا البياتي هو نغمة البلد الأصيلة، أو هو من أصل النغم، التي تتقلب فيها حناجر المصريين، ففي الحق أن هذه النغمة فوق سعة آفاقها، وتقبلها لكثرة التصرف والتلوين فإن المصري يجد من الاستراحة إليها والأنس بها ما لا يجد لكثير، أو لعله يرجع إلى هدوء في طبيعتها يلين للحناجر قبل أن تصقل وتجلى، ثم يتلطف لها بعدما نهكها الجهد الشديد.

هذا ما كان وما لا يزال قائما من أدب ترتيل القرآن الكريم عند كبار المرتلين، أما أهازيج السحر التي تتقدم أذان الفجر، وهي أناظيم فيها استغفار وفيها تشفع بالنبي

Bog aan la aqoon