ففطنت أُم جعفر لهما، وأنهما تراسلا بما في نفوسهما، فضحكت وقالت: ما سمعت بأملح مما صنعتما، هي لك يا مخارق، انصرفي، في حفظ الله، مع مولاكِ بجميع مالك عندنا، فقبلا الأرض بين يديها وقاما فانصرفا.
وهذه الأبيات للعباس بن الأحنف، واللحن لمخارق رمل.
قال الجُمحي: خرج الأخطل وصاحب له إلى نزهة وحملا سُفْرةً وزُكرة وجَلسا بين غدير وروضة فبينما هما على ذلك من شرابهما إذ طرأ عليهما طارئٌ لا يعرفانه فجلس إليهما وثقَّل عليهما فقال الأخطل:
وليس القذا بالعود يسقط في الإنا ... ولا بذباب خطبُهُ أَيْسَرُ الأمرِ
ولكنَّ شخصًا لا تُسرُّ بقربه ... رمتنا به الأقدار من حيث لا ندري
فلما سمع ذلك نهض وتركهما.
ولما مات أو محجن الثقفي، وقف رجل على قبرِهِ فقال: يرحمك الله لقد كنت قليل المِراءِ، جيد الغناء غير نعاسٍ ولا حباسٍ للكأس.
وقال أبو بكر بن الأنباري، كان العباس بن علي عمّ المنصور يأخذ الكأس بيده، ثم يقول: أما النفس فتُسخِّين، وأما القلب فتشجعين، وأما الهم فتطردين، أفتراك مني تفلتين، ثم يشربها ويميل على جنبه.
وذكر سليمان بن سهل بن نوبخت قال: مرّ بي أبو نواس في غداة يومٍ من أيام الربيع وقد أتت السماءُ بطشٍّ ورذاذ فقال:
ما مثل هذا اليوم في طيبه ... عُطِّلَ من لهوٍ ولا ضُيعا
فما ترى فيه، وماذا الذي ... تُحبُّ هذا اليوم أن نصنعا
هل لك أن تغدو على قهوة ... تسرعُ في المرء إذا أسرعا
ما وجد الناسُ ولا جربوا ... للهمِّ شيئًا مثلها مَدفعا
قال؛ فقلت: ما كان ليُساعدني على مثل هذا إلا مثلك، فأقِم، فهاهنا ما يُصلِحُكَ، فأقام، فمرَّ لي من محادثته وإنشاده أطيبُ يومٍ وألذه.
وحكى محمد بن بشر قال: كان أبو نواس وهو غلام معي في مجلسي فحمل عليه النبيذ فانصرف بعد أن جهد به كل من في المجلس أن يقيم عندهم، فأبى وخرجتُ فاعتمد عليَّ يسقط مرِّة ويقوم أخرى ويقول في شدة سكره:
قد كنت في منزل رُحابِ ... لكن أتت شِرَّةُ الشباب
وشقوة تنحت الرواسي ... جاءَ بها نازِلُ الشراب
قال: فجئت به إلى منزلي فنومته، فلما كان في الليل أتيته فحدثته بالحديث وأنشدته البيتين. وروى المدائني قال: بينما إبرهة بن الصبّاح الكندي عند عبد العزيز بفتيةٍ من أهل الشراب لهم جمال ومناظر، قد أُخذوا على شراب لهم، فأمر عبد العزيز أن يضربوا بالسياط، فقال ابرهة: نشدتك الله أيها الأمير أن لا تفضح مثل هؤلاء الفتيان بمصرِنا، فقال عبد العزيز: إن الحق في هؤلاء وفي غيرهم واحد، فقال ابرهة، يا غلام، أصبب من شرابهم في القدح وأدنه مني، فصبَّه ثم ناوله فشمَّهُ ثم شربه وقال: أصلح الله الأمير، ما نشرب في بيوتنا على غذائنا إلا من هذا، فقال عبد العزيز: أطلقوهم، فلما خرج ابرهة قيل له، أشربت الخمر، فقال الله يعلم أني ما شربتها صحيحًا ولا تعالجت بها سقيمًا قط، ولكني كرهت أن يفضح مثل هؤلاء الفتية في بلدةٍ أنا فيها.
ونزل بأبي عطاء السندي ضيف فبرّه وأكرمه وسقاه خمرًا فلما عملت فيه جعل يعرض لامرأة أبي عطاء ويومئ إليها بعينه، فقال أبو عطاء:
كل هنيئًا وما شربت مريئًا ... ثم قم صاغرًا فغير كريم
لا أحب النديم يومئ بالطرف إذا ما انتشى لعِرسِ النديم
ونزل آخر برجل، فأحسن ضيافته فتعرضت للضيف امرأة صاحب المنزل فخرج مسرعًا وقال:
رب بيضاء كالمهاةِ تهادى ... قد دعتني لوصلها فأبيتُ
لم يكن بي تحرُّجٌ غير أنيّ ... كنتُ ندمان زوجها فاستحيت
وأصاب آخر مثلُ هذا فقال:
سأترك ما أخاف عليَّ منه ... فعالَ السوء عمري ما حيِيتُ
ولا والله لا ألفى بليلٍ ... أراقب عِرس جاري، ما بقيتُ
أبى لي ذاك آباءٌ كرامٌ ... وأجدادٌ بمجدهمُ رُبيتُ
وفي خلاف هذا يقول عبد الرحمن بن أم الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أُمَّ أَبانِ
ترى شاربيها حين يغتبقانِها ... يميلان أحيانًا ويعتدلانِ
1 / 25