فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام، وما تكسب الأنفس غدًا وبأي أرض تموت، قالت نعم. فقام فجلس إلى جانبها، وأدخل يده في جلبابها وقرصها وغنت له، ثم قالت: برح الخفاء، أنا أعلم أنك تشتهي تقبيلي شق التين،اغنيك هزجًا.
أنا أبصرت بالليل ... غلامًا حسن الدلِّ
كغصن البان قد أصبح مسقيًا من الطل
فقال: امرأته طالق إن لم تكوني نبية مرسلة، فقبلها وغنته ثم قالت له: إيه: أبا إسحق، أرأيت قط أنذل من هؤلاء، يدعونك ويخرجونني إليك ولا يشترون لنا بدرهم ريحانًا، يا أبا اسحق، هاتِ درهمًا نشتري به ريحانًا، فوثب وصاح، واحرباه أي زانية، أخطأت استك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحي إليك، وتركها وجلس ناحية، وعطعط بها القوم وقالوا لم تنفذ حيلتكِ عليه وجددوا مجلسهم، ولم يعد إليها بعد ذلك.
كانت سلاَّمة الزرقاء جارية ابن رامين، مولى بشر بن مروان، أحسن الناس وجهًا وغناءًا، من ساكني الكوفة، وكان ابن رامين مولاها يقين عليها، وينفق الناس في منزله الرغائب، وكان ممن يغشاها من الأشراف، روح بن حاتم المهلبي ومعن بن زائدة الشيباني ونظراؤهما، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه فقال لها: إن روح بن حاتم قد ثقل علي، قالت: وما أصنع وقد غمر مولاي ببره، فقال: احتالي له، فبات عندهم روحٌ ليلةً من الليالي فشرب، فلما سكر ونام أخذت سراويله فقالت: غسلته، فظن أنه قد أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فأستحيا من ذلك فانقطع عنها وخلا وجهها لبن جميل.
وحكى حماد بن اسحق عن أبيه قال: حدَّثني عبد الرحمن بن مُقرن، قال: أتيت ابن رامين يومًا فاستأذنت عليه فقال: قد سبقك روح بن حاتم، فإن كنت لا تحتشم منه فهلم، فدخلت، وخرجت إلينا الزرقاء في ثوبين موردين، والله لكأن الشمس طالعةٌ من قرنها إلى قدمها، فغنتنا ساعة، ثم جاء الخدم الذين يستأذنون عليها، وكان الإذن إليها، لا إلى مولاها، فقالوا: يزيد بن عون العُبادي الصيرفي، الملقب بالماجن، بالباب، قالت: ادخله، فأدخل فلما استقبلها سجد لها ثم أقعى بين يديها، قال فتبينت والله فيه الوجد بها، وزاد حتى ظهر لنا ولمن حضر، وكان من أحسن الناس وجهًا، وأشكلهم فأقبلت عليه بغنائها ومُزاحها، ثم أدخل يده في كمه فأخرج درتين ما رأيت مثلهما، ثم قال: أنظري يا سيدتي إليهما جعلت فداكِ، وقال: والله لقد نقدت أمس فيهما أربعين ألفًا؛ قالت: وما أصنع بهما وما عليَّ من ذلك، ثم غنته صوتًا كان يشتهيه عليها، وأقبلت عليه وقالت: يا ماجن هبهما لي، قال: إن شئت والله فعلت، قالت: قد والله شئت، قال: أن تأخذيهما بشفتيك من بين شفتي، قال فأراد روح البطش به، فقلت له: ألك في منزل القوم حقٌ أو لك في رقِّ الجارية ملك، لو كان هذا يُنكر عندهم لأنكره مولاها، وها هو حاضرٌ، وإنما يتكسبون بما ترى، فإن كان لك في عشرتهم حاجة، فأمسك، قال: فعَلِم أني قد صدقته فأمسك، قال: وسمع ابن رامين قولهما فقام كأنه يبول، فقالت له الزرقاء، هاتِهما، فزحف إليها وجثا بين يديها وهما بين شفتيه، فلما ذهبت إليه تناولتهما بشفتيها، وهو يصد عنها يمينًا وشمالًا ليستكثر منها، ثم أخذتهما بشفتيها من فيه، وقبلها وقام فرجع وقد لااحمرَّ وجهُها ورشح جبينها عرقًا، حياءً منا، ثم تجلدت علينا وقالت: (المغبون في أسته عود) قال: أما أنا فوالله لا أبالي بهذا، ولا يزال طيبُ هذه الرائحة، والنسيمُ من فيك في فيَّ أبدًا ما بقيت.
واشترى الزرقاء هذه جعفر بن سليمان أمير البصرة فسألها ذات يومٍ: هل ظفر أحد قط ممن كان يهواك منك بخلوة أو بقبلة، فخشيت أن يكون بلغه ما فعلت مع الماجن، لأنه كان بِحضرة جماعةٍ، فقالت: لا والله، إلا يزيد بن عون العبادي، فأنه قبلني قبلة وأخرج من فيه درتين بأربعين ألف درهم فجعلهما من فيه إلى فيَّ فلم يزل جعفر يحتال له ويطلبه حتى وقع في يده فضربه بالسياط حتى مات.
وقال أبو الفرج الأصبهاني، حدثني جحظة قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: سمعت أبي يقول: كان، قبل أن يعلم الرشيد أني أغني ويسمعني، سمع حسنة وظلة، جاريتي المهدي عند أخته العباسة بنت المهدي وقد دعته إليها فغنتاه هذا الصوت وهما متراسلتان فيه:
ولقد طرقت البيت يُخشى أهله ... بعد الهدوِّ وبعد ما سقط الندى
1 / 23