كان مطيع بن إياس الليثي، ويحيى بن زياد الحارثي وحمّاد الراوية وحمّاد عجرد، يجتمعون على الشراب ولا يكادون يفترقون وكان لأبي الأصبع جارية وكان له عدة قيان غيرها، وكان فتيان الكوفة يألفون منزله وينفقون عنده، وكان هؤلاء الأثدباء الذين سمينا يغشون منزله لجارية له يقال لها مولدة صفراء حسنة الوجه، طيبة الغناء، بارعة الظرف والأدب، وكان لأبي الأصبع ابن يقال له الأصبع، لم يكن بالعراق أحسن منه وجهًا، يتعشقونه فلا يقدرون عليه، وكان يحيى بن زياد كثير الإفضال على أبي الأصبع، وعزم الأصبع، على أن يصطبح يومًا مع يحيى بن زياد؛ فأهدى إليه يحيى جداءً ودجاجًا وفراخًا وفاكهةً وشرابًا وقال أبو الأصبح لجواريه: إن يحيى يزورنا فأصلحن له ما يشبه مثله، فلما فرغ من الطعام لم يجد رسولًا يبعث به إليه لأنه وجه بغلمانه في حوائجه فوجه ابنه الأصبع فقال له لا تبرح أو يجيء معك، فلما جاء أصبع قال للغلام ادخله إليَّ، وتنح أنت واغلق الباب فإن أراد اصبع الخروج فامنعه، فلما دخل إليه اصبع وأدى الرسالة راوده عن نفسه فامتنع فثاوره يحيى فصرعه، ورام حلَّ تكته فلم يقدر على ذلك فقطعها وناكه فلما فرغ أعطاه أربعين دينارًا، وكانت عنده تحت مصلاته فأخذها وقال له يحيى: امضِ وأنا في أثرك، فخرج اصبع من عنده، فاغتسل يحيى وجلس يتزين ويتبخر، فدخل إليه مطيع فرأى ما هو فيه فقال له: كيف أصبحت فلم يجبه وشمخ بأنفه وقطب حاجبيه وتعظم وتفخم فقال له: أراك تتبخر وتتزين فإلى أين عزمت، فلم يجبه وازداد قطوبًا، فقال له ويحك مالك؟ نزل عليك الوحي؟ كلمتك الملائكة؟ بويع لك بالخلافة، وهو يومئ برأسه، لا لا، فقال له: ما خبرك، قد بهتَّ فلا تتكلم، كأنك والله قد نكت الأصبع، قال أَي والله، الساعة نكتهُ وأعطيته أربعين دينارًا، قال: فإلى أين تمضي، قال: إلى دعوة أبيه، قال مطيع: فأمرأته طالق ثلاثًا إن فارقتك أو أُقبل ايرك فأبداه له يحيى حتى قبله، ثم قال: كيف قدرت عليه، فحدثه حديثه، وقام فمضى إلى منزل أبي الأصبع فأتبعه مطيع، فقال: ما تصنع معي والرجل لم يدعُك، وإنما يريد الخلوة معي، قال: أُشيعك إلى بابه، ونتحدث فمضى معه، فدخل يحيى ورد الباب في وجهه، فصبر مطيع ساعةً ثم دق الباب واستأذن، فخرج إليه الرسول وقال له: أنا عنك مشغول اليوم في شغلٍ لا أتفرغ معه لك فتعذر، قال: فابعث إلي بدواةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى أبي الأصبع:
يا أبا الأصبع لا زلت على ... كل حالٍ ناعمًا متبعًا
لا تصيرني في الود كمن ... قطع التكة قطعًا شنعًا
وأتى ما يشتهي لم يثنه ... خيفة أو حفظ حقٍ ضيعا
لو ترى الأصبع ملقى تحته ... مستكينًا خجلًا قد خضعا
وله دفع عليه عجلٌ ... شبقًا، ساءَك ما قد صنعا
فادع بالأصبع فأعرف حاله ... سترى أمرًا قبيحًا فظعا
قال، فقال أبو الأصبع ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية، قال لا والله، فضرب بيده على تكة ابنه فوجدها مقطوعة، فأيقن بالفضيحة، فقال يحيى: قد كان الذي كان، وسعى (بي) إليك مطيع ابن الزانية، وهذا ابني وهو والله أفره من ابنك وأنا عربي ابن عربية وأنت نبطي ابن نبطية، فنك ابني عشر مراتٍ، مكان المرة الواحدة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير والواحدة بعشرٍ، فضحك أبو الأصبع وضحك الجواري، وقال لأبنه: هات الدنانير يا ابن الفاعلة فرمى بها إليه وقام خجلًا، فقال يحيى، والله لادخلَ مطيعٌ الساعي ابن الزانية، قال أبو الأصبع وجواريه، والله ليدخلن إلينا، فقد نصحنا وغششتنا، فادخل وجلس وشرب معهم، ويحيى يشتمه بكل لسان وهو يضحك.
وكانت لبربر المدنيو جارية يقال لها جوهر أحسن الناس وجهًا وغناءً وأتمهم وأكملهم في كل فن، فتنت العالمين وعشقها أكثر فتيان ذلك العصر، وقال فيها الشعراء الأشعار فأكثروا فيها، يقول فيها مطيع ابن إياس:
بيضاء واضحة الجبين كأن غرتها نهار
تشفي بريقتها السقيم كأن ريقتها العُقارُ
القلبُ قلبي وهو عند الهاشمية مُستعارُ
1 / 21