فطرب عبد الوهاب وصاح وتبين الحذق في إشارته، والطيب في طبعه، وقال: يا غلام، خذ بيده إلى الحمام وعجِّل عليَّ به، فأُدخل الحمام ونظِّف، ثم دعا عبد الوهاب بخلعةٍ من ثيابه فألقيت عليه، ورفعه وأجلسه عن يساره وأقبل عليه وبسطه فغنى له:
قومي امزُجي التِّبر باللجين ... واحتملي الرِّطل باليدين
واغتنمي نومة الليالي ... فربَّما أوقظت لِحيني
فقد لعمري أَقرَّ منّا ... هلالُ شوال كلَّ عينِ
ذات الخلاخيل أبصرته ... كنصف خلخالها اللُّجين
فطرب وشرب واستزاده فغناه:
من لي على رغم الحسود بقهوةٍ ... بكر ربيبة حانةٍ عذراء
موج من الذهب المذاب يضمه ... كأس كقشر الدُّرة البيضاءِ
والنجم في أُفق السماء كأنه ... عين تخالس أعيُن الرُّقباء
فشرب عبد الوهاب ثم قال زدني، فغناه:
وأنت التي أشرقت عيني بمائها ... وعلمتها بالهجر أن تهجر الغمضا
وأغريتها بالدمع حتى جفونُها ... لتذكر، من فقد الكرى، بعضُها بعضا
فمرَّ يوم من أحسن الأيام وأطيبها، ووصله وأحسن إليه، ولم يزل عنده مقربًا مكرمًا، وكان خليعًا ماجنًا مشتهرًا بالنبيذ ولزوم المواخير، ثم وصفت له الأندلس وطيبها وكثرة خمورها، فمضى إليها ومات بها.
وعلى نحو هذا الحال كان يفعل بكل طارئ يطرأ من المشرق، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب.
وحضرنا عنده يومًا وقد أتى بنرجس نوري في غاية الحسن والرُّواء، ونهاية الطيب واذكاء، وقد تثاقل عن، الغناءِ ولم ير له نشاطاًا فلما وضع النرجس بين يديه، أمر بمجامر فأُحرق فيها ندٌ وعنبر، لإاراد عليٌّ بن الطيِّب تحريكه، وكان من جملة الكتاب الرؤساء والشعراء والأُدباء، فقال: أتعرفون في وصف النرجس أحسن من قول عليّ بن العباس الرومي، وأنشد له:
للنرجس الفضل المبين وإن أبي ... آبٍ وحاد عن الطريقة حائد
فصل القضية، أن هذا قائدٌ ... زهر الرياض، وأن هذا طاردُ
وإذا احتفظت به فأمنَعُ صاحبٍ ... بحياته لو أن حيًّا خالدُ
ينهى النديم عن القبيح بلحظه ... وعلى المُدامة والسَّماع مساعِدُ
هذي النجوم هي التي ربتهما ... بحيا السحابِ كما يُربي الوالدُ
٣ف - انظر إلى الأخوين من أدناهما شبهًا بوالده فذاك الماجدُ
أين الخدودُ من العيون نفاسةً ... ورياسةً لولا القياسُ الفاسِدُ
فاستحسنها وتناول باقةً ودعا برطلٍ ليشربه فقلتُ له: مهلًا حتى أُنشدك ما جمع فيه من تشبيه ما في يمينك ويسارك، وأنشده:
أدرك ثقاتك إنهم وقعوا ... في نرجس معه ابنة العِنبِ
فهم بحالٍ لو بصرت بها ... سبَّحت من عجبٍ ومن عَجَبِ
ريحانهم ذهبٌ على دُررٍ ... وشرابهم درٌّ على ذهبِ
يا نرجس الدنيا، أقِم أبدًا ... للاقتراح ودائم النُّخبِ
وله في هذه الأبيات لحن طيب وإنما أردت تذكيره وتحريكه فلم يزل يُسر بذلك وارتاح له، وشب، وأمر بالعود، وكان يُصلح له قبل أن يؤتى به، فجسَّه وغنّى في نحو ما أنشد، وما علمنا في ذلك الوقت أن الشعر له أو لغيره، وهو:
نبِّه نديمك يا غلا ... مُ فإنَّ ذا يومٌ أَغرُّ
بادر إِليَّ بسكرةٍ ... فإذا فعلت فأنت حُرُّ
واجمع لنرجسكَ المدا ... مَ فإِن جمعَها يَسُرُّ
واشرب عليه شبيههُ ... وكلاهما ذهبٌ ودُرُّ
ثم غنَّى بعده نشيدًا:
ما خابَ من جعل الجزيرة موطنًا ... لا الزابُ يشبهها والخابورُ
تحيا النفوس بطيبها فكأنها ... نيلُ الرضا يحيى به المهجورُ
وكأن نرجِسها عيونٌ كُحلتْ ... بالزعفران جفونها كافورُ
وبسيطهُ:
على بغداد من قلبي السلامُ ... تحية من أَضرَّ به السَّقامُ
لئن أُخرجت من بغداد كرهًا ... فإن القلب فيها مستهامُ
أذوب صبابةً وأموت عشقًا ... وأَحسدُ من له فيها مقامُ
1 / 11