الشيء هو مجموعة معطياته الحسية، هو مجموعة آثاره على الحس، لا فرق في ذلك بين صفات ثانوية وأخرى أولية، ولا فرق بين عرض وجوهر، فاجمع معطيات الحس حزمة واحدة تكن لك طبيعة الشيء الذي تدركه، ولا حقيقة له وراء ذلك؛ معطياتنا الحسية هي الأول والآخر والظاهر والباطن!
لكن مهلا! ماذا أنت قائل في خداع الحواس؟ أليست الحواس ترى العصا مكسورة في الماء وما هي كذلك في حقيقتها؟ هذا ما يسارع بقوله أعداء الحوا، ورد اعتراضهم هو أهون الهينات؛ فالعصا مكسورة فعلا عند النظر وهي في الماء، مستقيمة عند اللمس؛ فإذا سئلت ما حقيقة العصا؟ وجب أن تقول إن حقيقتها عندئذ هي أنها مكسورة في الرؤية مستقيمة في اللمس؛ لأن ذلك هو الواقع، وما خدعتك عينك حين أدركت العصا مكسورة في الماء، لأن الموجات الضوئية المنبعثة من العصا عندئذ هي كذلك، وإنما تخدع العين لو رأت العصا مستقيمة في الماء رغم الأثر الذي يطبعه الواقع كما هو.
ولو رأيت العصا مكسورة في الماء ثم استنتجت أنها ستكون منحنية كذلك عند اللمس، فالخطأ هنا في الاستدلال لا في الإحساس؛ لأنك أخطأت حين ظننت أن الرؤية واللمس لا بد أن يتفقا مهما يكن وضع العصا.
إذا رأيت القرش مستديرا من موضع بيضاويا من موضع آخر، فلا تقل مع بعض القائلين: ترى ما حقيقة شكل القرش الثابتة وراء هذه الظواهر المختلفات؛ لأن حقيقة القرش هي هذه الظواهر المختلفات نفسها، حقيقة القرش هي مجموعة معطياته الحسية، ولو كان للقرش ألف ألف ظاهرة مختلفة من مواضع مختلفة فحقيقته هي هذه الآلاف كلها مجتمعة، ما دامت هذه الآلاف المختلفة كلها هي القرش في الواقع؛ إنه لا ضير عليك إذا سئلت: ما حقيقة شكل القرش؟ أن تسأل بدورك: من أي موضع؟ لأنه مع اختلاف الموضع يختلف الشكل، ومن المكابرة الحمقاء أن أغمض عيني عن الواقع لأصف شيئا آخر ليس له وجود.
نعود فنكرر ما أردنا تقريره، وهو أن المدرك الحسي هو مجموعة معطياته، وليس لنا الحق في افتراض وجود «شيء» بذاته يكمن وراء تلك المعطيات، وكأنما يسلمنا هذا القول إلى عرض أهم النظريات السائدة اليوم عن الإدراك الحسي، التي أراد بها أصحابها أن يخففوا بعض الشيء من حدة هذه الواقعية المتطرفة التي بسطنا خلاصتها فيما سلف؛ فأصحاب هذه النظريات التي سنذكرها لك الآن قد هالهم أن يقال إن المعطيات الحسية هي نفسها المدرك الحسي دون أن يكون هنالك «شيء» يبعثها! أو إن شئت فقل إن «الشيء» لم يعد سوى نسيج من الصفات كما تقع في الحواس! هالهم أن يقال هذا وأرادوا أن ينقذوا «شيئية» المدرك الحسي من هذا الإسراف.
وأولى هذه النظريات نظرية دعا إليها «وايتهد» وأطلق عليها «نظرية الأوضاع المتعددة»
The Theory of Multiple Location
وموجزها هو أننا يجب أن نفرق بين الخصائص التي تميز شيئا ما من موضع معين وبين الخصائص التي تميزه بغض النظر عن موضعه؛ فقد تضع قرشا في موضع معين بحيث يبدو لك من ذلك الموضع بيضاويا ويبدو كأنما هو أصغر حجما من ذات المليمين، لكن القرش بغض النظر عن موضعه ذاك، أو أي موضع آخر معين، دائري وأكبر حجما من ذات المليمين! ومعني ذلك أن «القرش في ذاته» هو هكذا وليس كما بدا من موضعه الأول. يقول «وايتهد»، ما معناه: نعم إننا لا ننكر أن القرش في الموضع الأول هو بيضاوي فعلا وصغير الحجم فعلا؛ لأنه ليس لدينا ما يبرر إنكار حقيقة ما تدركه الحواس عندئذ، إننا لا ننكر ذلك، لكننا نضيف إليه أن «القرش في ذاته» وبغض النظر عن أوضاعه دائري وذو حجم معين، والعلم حين يتناول الشيء بالوصف إنما يعنيه الشيء في هذه الحالة الثانية التي لا ترتكز على وضع معين في تحديد صورة الشيء، فما يبدو للحواس من صفات الشيء وهو في شتى الأوضاع حقيقي وواقع لكنه ليس هو ما يعنى به العلم حين يتناول الشيء بالوصف ؛ وإنما يهتم العلم بصفات أخرى ثابتة لا تتغير بتغير الأوضاع.
وفي رأينا أن «وايتهد» قد أخطأ هنا خطأين؛ الأول هو أنه لم يلتزم حدود الملاحظة الصرفة كما ينبغي لأي عالم أن يفعل! فالملاحظة التي لا تتحزب ولا تتعصب ولا تعرف الهوى تقرر أن القرش في موضع ما بيضاوي وفي موضع آخر دائري، وإذن فالشكلان في حكم النظر سواء، وليس لنا أن نقول عن أحد الشكلين دون الآخر إنه يصف القرش في حقيقته! ولعل ما دفع «وايتهد» إلى هذا الخطأ. هو احتفاظه بالفكرة التقليدية التي لا سند لها عند الملاحظة الدقيقة، وهي أن هنالك «شيئا في ذاته» له حقيقة ثابتة غير هذه الظواهر المتغيرة، ولكن حذار أن يفهم القارئ من ذلك أني لا أفرق أبدا بين شكلي القرش الدائري والبيضاوي؛ لأن هنالك فرقا ندركه بحاسة أخرى هي حاسة اللمس؛ فالقرش عند اللمس دائري دائما، وإذن فلنا أن نقول إن دائرية القرش أبدي من بيضاويته، لا على أساس أن «القرش في ذاته» دائري، فليس هناك «شيء في ذاته» وراء معطياته الحسية كما قلنا، بل على أساس اشتراك حاسة اللمس مع حاسة النظر في إدراك هذه الدائرية أحيانا، على حين أن اللمس لا يدركه بيضاويا أبدا، وإذن فنحن قد نثبت للقرش دائريته دون أن تخرج من نطاق معطياتنا الحسية التي ندركها، لنضرب في مجاهل «الشيء في ذاته».
والخطأ الثاني الذي أخطأه «وايتهد» هو أنه قال كلاما أطلق عليه «نظرية» وليس هو في حكم المنطق بنظرية على الإطلاق؛ لأننا نعيد ما أسلفناه من أن الكلام لا يكون «نظرية» إلا إذا كان هناك فرق في العالم بين صدق هذا الكلام وكذبه؛ عندئذ يكون في مستطاعنا أن نثبت أو ندحض هذه «النظرية»، أما إن كنا لا نستطيع قط أن نتصور اختلافا في إدراكنا للأشياء بين حالتي صدق الكلام الذي يقال لنا وكذبه، فمن حقنا أن نرفض رفضا قاطعا أن يوصف لنا مثل هذا الكلام بأنه «نظرية».
Bog aan la aqoon