وتستطيع أن تطمئن بالا؛ فليس في عزمنا أن ندور بك على تلك المذاهب المختلفة كلها، لنقول لك إن هذه البرتقالة التي تدركها بحواسك، هي في رأي المذهب الفلاني كذا، وفي رأي المذهب الآخر هكذا، بل سنشق بك الطريق مختصرة «قصيرة» إلى الرأي الذي نعتقد أنه الصواب.
فالرأي الصواب عندنا في حقيقة البرتقالة وغير البرتقالة مما يعج به الكون من «أشياء» هو ما يقرره الواقع كما تحكم به الحواس لا أكثر من ذلك ولا أقل؛ فلسنا نتردد لحظة واحدة في صم آذاننا عن كل لفظة تقال ولا يكون لها عند الحواس مدلول! فلئن كانت حواسي تدرك من البرتقالة لونا وطعما ورائحة وملمسا، كانت هذه الصفات في مجموعها وفي طريقة تركيبها هي البرتقالة، ولا شيء وراء ذلك.
ولنرمز إلى هذه المجموعة من الصفات بالرمز «أ ب ج د»؛ فلا يتحتم أن أدرك «أ ب ج د» دفعة واحدة لأقول إني أدركت برتقالة، بل إني لم أدركها ولن أدركها دفعة واحدة قط، وإنما أدركتها فرادي، ثم ارتبطت هذه الأفراد ارتباطا جعل منها «برتقالة»، فإذا ما أدركت في لحظة ما «أ» وحدها (ولتكن اللون مثلا) دارت في رأسي «عملية استدلال» سريعة، أستدل بها ضرورة أن تكون سائر الصفات «ب، ج، د» ممكنة الإدراك لو تهيأت لها الأسباب، فإذا كانت «ب» - مثلا - رمزا لطعم البرتقالة، كنت بمثابة من يقرر قضية شرطية ويقول: إذا وضعت هذا الشيء الذي أدرك لونه الآن، على لساني، أحسست الطعم الفلاني. وبالطبع قد أخطئ في هذا الاستدلال، فأضع ما ظننته برتقالة على لساني وإذا به قطعة من الحجر.
البرتقالة - إذن - (وكل شيء في الوجود) هي مجموعة صفاتها، أو إن شئت فقل إنها مجموعة معطياتها الحسية، أو إن شئت مرة ثانية فقل إنها مجموعة من حوادث، ولا شيء وراء حوادثها العابرة. لكن اللغة تخدعنا خداعا لا ينتهي مداه، وفي محاولة التغلب على خداع التركيب اللغوي تتركز مجهودات طائفة كبيرة من الفلاسفة المعاصرين الذين ينعتون «مذهبهم» باسم «الوضعية المنطقية» وإنما وضعت كلمة «مذهب» بين أقواس؛ لأن الوضعيين المنطقيين لا مذهب لهم، ولا يريدون لأي فيلسوف في الدنيا أن يكون ذا مذهب؛ فالمذاهب التي هي وصف لما في الكون إنما تقع على كاهل العلماء وحدهم، كل عالم يصف الكون من ناحيته بالأساليب التي يرضاها العلم الوضعي، وأما الفيلسوف فمهمته تحليل اللغة التي يستخدمها هؤلاء تحليلا يزيل عنها جوانب خداعها؛ فمن ضروب الخداع اللغوي في الموضوع الذي نحن بصدده، أننا نستخدم صيغة المضاف والمضاف إليه، فنقول: لون البرتقالة، طعم البرتقالة، رائحة البرتقالة، وهلم جرا. فنتوهم عندئذ أن البرتقالة شيء غير لونها وطعمها ورائحتها؛ لأن هذه الصفات كلها مضافة إلى شيء آخر هو البرتقالة نفسها؛ ومصدر الوهم هنا هو تركيب العبارة اللغوية.
ولنعد إلى رموزنا التي أسلفناها، فالبرتقالة قد رمزنا لها بالحروف «أب ج د» (أ لونها، ب طعمها، ج رائحتها، د ملمسها) وإذا أردنا أن نضع عبارة «لون البرتقالة» في صورتها الرمزية، كانت هكذا أ «أب ج د» ومن هذه الصورة الرمزية يتضح في جلاء أن «أ» لا تزال جزءا من صميم البرتقالة، على الرغم من تكرار وضعها خارج الأقواس؛ فلا نستطيع أن نقول إن البرتقالة شيء غير لونها ، لأن لونها كما ترى جزء منها، وإنما خدعتنا اللغة بتركيبها.
ونستطيع ها هنا أن نحكم برأي في كل فلسفة تقول بوجود «الشيء في ذاته»؛ فهنالك فلسفات لا يقنعها من البرتقالة ما تدركه الحواس منها، فذلك عندها قليل، ولا بد أن نضع إلى جانب مدركات الحواس «برتقالة في ذاتها» هي التي توصف بما توصف به البرتقالة من لون وطعم ورائحة ولمس.
ورأي الوضعيين المنطقيين في مثل هذه المزاعم مختصر قوي واضح، فقل ما شئت من ألفاظ، على أن تكون مستعدا لبيان مدلولات ألفاظك هذه التي تقولها، أما إن قلت لفظة ثم عجزت عن بيان مدلولها، كانت لفظة فارغة لا بد من حذفها غير آسفين.
وعلى هذا الأساس يمكن سؤال الرجل الذي يقول لنا إن وراء صفات البرتقالة الظاهرة «حقيقة» خافية، هي «البرتقالة في ذاتها». يمكن سؤال هذا الرجل بقولنا: بين لنا مدلول هذه اللفظة، كيف أدركه؟ ولست أحسب أنه سيجد الجواب عند الحواس.
لكنه سيسهل عليه أن يقول: هذا شيء «أستدله» بالعقل ولا ضرورة هنا لإدراك الحواس. ألست تعلم أن علماء الفلك قد رأوا «أورانوس» يتحرك حركات لم يستطيعوا تعليلها إلا بفرضهم وجود جرم سماوي آخر لم يكونوا قد رأوه بعد، وأطلقوا على هذا الجرم السماوي المفروض اسم «نبتون»؟ فلماذا تجيز لعلماء الفلك أن يستدلوا بعقولهم جرما لم يكونوا قد رأوه بعد بحواسهم، ولا تجيز لنا أن نستدل وجود «البرتقالة في ذاتها» من ظواهر البرتقالة، حتى ولو لم تستطع الحواس أن تدرك تلك البرتقالة الحقيقية الخافية؟
وجوابنا على ذلك بسيط وهام، وهو أنك إذا فرضت وجود شيء ثم تبين أن العالم لا تتغير صورته إذا ثبت فرضك أو إذا أخطأ؛ فالفرض «لغو باطل لا معنى له»، فإذا قلت لي - مثلا: إن وراء هذا الستار رجلا مختبئا. كان قولك ذا معني؛ لأن العالم تتغير صورته إذا صدق قولك عنه إن كذب. لكن ما الذي يتغير في العالم إطلاقا إن صدق أو كذب افتراضنا بأن وراء ظواهر البرتقالة «برتقالة في ذاتها»؟ إن البرتقالة ستظل في إدراكك لها هي هي سواء صح الفرض أو أخطأ، إذن فليس هو بالفرض المقبول إطلاقا، بل ليس هو بالكلام إطلاقا، إنما هو ضرب من ضروب الخداع اللغوي التي ينبه لها الوضعيون المنطقيون، فلا تحسبن أن كل عبارة لغوية تكون ذات معني مقبول منطقيا إذا كان تركيبها اللفظي مقبولا عند النحويين.
Bog aan la aqoon