هذا مجمل البحث كما وصفه المؤلف في «تقديم» الكتاب، وقد استغرق الكتاب ثلاثمائة وثلاثا وأربعين صفحة من القطع الكبير، قسم فيها الكاتب موضوعه جزأين، أما أكبرهما فجزء يتعقب تاريخ النقد من ابن سلام إلى ابن الأثير، وأما أصغرهما فيتناول بالبحث موضوعات النقد ومقاييسه. ويقع أكبر الجزأين في سبعة فصول، فيحدثك المؤلف في الفصل الأول عن النقد الأدبي عند ابن سلام وابن قتيبة، وفي الفصل الثاني عن نشأة النقد المنهجي عند ابن المعتز وقدامة، وفي الفصل الثالث يحدثك الكاتب الأديب في براعة تستوقف النظر عن الآمدي في موازنته بين أبي تمام والبحتري، كما يحدث في الخامس والسادس عن القاضي الجرجاني ونقده المنهجي حول المتنبي، ثم يذكر لك في الفصل السابع كيف تحول النقد إلى بلاغة على يدي أبي هلال العسكري.
وأما أصغر الجزأين فيقع في ثلاثة فصول: في الأول بحث حول الموازنة بين الشعراء، وفي الثاني حديث عن السرقات الأدبية، وفي الثالث عرض لمقاييس النقد الأدبي. •••
كدت لا أقرأ صفحة من هذا كله دون أن أجد موضعا أعجب فيه بكاتبنا الأديب، أو موضعا أجادله فيه الرأي؛ فهو يرغمك إرغاما على الإعجاب به في مئات المواضع من كتابه، تارة بسداد فكرته، وطورا بجودة عرضه لفكرة سواه.
وعندي أن أظهر ما ظهرت فيه براعة المؤلف الفاضل هو عرضه لمذهب الآمدي في النقد الأدبي وفي طريقة دفاعه عنه، يقول: «إننا نستطيع أن نستخلص من أقواله روحه في الدراسة، فهي روح ناضجة، روح منهجية حذرة يقظة، وهو يتناول الخصومة كرجل بعيد عنها يريد أن يجمع عناصرها ويعرضها ويدرسها، فإن حكم قصر حكمه على الجزئيات التي ينظر فيها؛ فقد يكون البحتري أشعر في باب من أبواب الشعر أو معنى من معانيه، وقد يكون أبو تمام أشعر من ناحية أخرى. وأما إطلاق الحكم وتفضيل أحدهما على الآخر جملة فهذا ما يرفضه الآمدي» (ص77)، ثم انظر كيف يلخص استعراض الآمدي للمحاجة التي أدارها حول المفاضلة بين أبي تمام والبحتري، تلخيصا لا يستطيعه إلا رجل يستوعب ما يقرأ استيعابا يجعله جزءا منه، يقول في صفحة 299 وما بعدها:
يبدأ فيقرر أن أصحاب البحتري هم الميالون إلى الشعر المطبوع المتمسكون بعمود الشعر، بينما أصحاب أبي تمام هم أهل الصنعة وتوليد المعاني، وأما عن نفسه فهو يرفض أن يفضل أحدهما على الآخر تفضيلا مطلقا، وبفراغه من وصف طرفي الخصومة يورد مناظرتهم في إحدى عشرة نقطة نلخصها قبل أن نأخذ في مناقشتها، والذي يبدأ المناظرة هو صاحب أبي تمام يورد الحجة وصاحب البحتري يرد عليها: (1)
البحتري أخذ عن أبي تمام وتتلمذ له، ومن معانيه استقى، حتى قيل الطائي الأصغر والطائي الأكبر؛ واعترف البحتري نفسه بأن جيد أبي تمام خير من جيده، على كثرة جيد أبي تمام. - يرد صاحب البحتري بإيراد بدء تعارفهما، ويظهر أن البحتري كان إذ ذاك يقول الشعر الجيد، وإذن فهو لم ينتظر حتى يعلمه أبو تمام صناعة الشعر؛ وإذا كان البحتري قد استعار بعض معاني أبي تمام فهذا غير منكر لقرب بلديهما وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعر أبي تمام، ولهذا نظائره؛ فكثير أخذ عن جميل، ثم إن استواء شعر البحتري مزية يفضل بها أبا تمام الذي تفاوت شعره تفاوتا يقدح في صحة طبعه، وتفضيل البحتري لجيد أبي تمام على جيده هو، ليس إلا تواضعا يحمد عليه لا حجة تساق ضده. (2)
إن أبا تمام رأس مذهب عرف به، وهذه فضيلة عري عن مثلها البحتري. - لم يخترع أبو تمام شيئا، وإنما أسرف فيما سبق إليه من أوجه البديع، ورأس المذهب ليس أبا تمام بل مسلم بن الوليد، الذي قيل عنه إنه «أول من أفسد الشعر ...»
وهكذا يأخذ الدكتور مندور في تلخيص هذه المحاجة تلخيصا حيا واضحا حتى نهايتها.
قلت إن إعجابك بالمؤلف الفاضل يكون تارة لحسن عرضه لفكرة غيره، ويكون طورا لصواب رأيه وما يبديه من سلامة ذوق وحسن تذوق، فانظر مثلا كيف يوضح لك الكاتب الأديب في صفحة «5» فكرته بأن التاريخ الأدبي شيء يختلف كل الاختلاف عن النقد الأدبي، فيسوق لك هذا المثل: «يدرس النقد رثاء المهلهل لأخيه كليب والخنساء لصخر وابن الرومي لابنه والمتنبي لأخت سيف الدولة، كلا منهم منفردا ثم يأتي تاريخ الأدب فيؤرخ للمراثي عند العرب فيكون عمله تأريخا لفن أدبي. ويدرس النقد غزل جميل وكثير أو غزل العرجي وعمر ابن أبي ربيعة، ويأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ للنسيب العذري أو لغزل اللذة الحسية، ويكون عمله تأريخا لتيار فني أخلاقي. وأخيرا يدرس النقد شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي تمام أو شعر الحطيئة وشعر زهير، ثم يأتي التاريخ الأدبي فيؤرخ لتذوق الصناعة في الشعر أو تذوق الخيال الحسي، ويكون عمله تأريخا لعصر من عصور الذوق المختلفة.»
أو انظر إلى هذه الموازنات الكثيرة التي يبدي فيها كاتبنا الأديب رأيه فيدل على ذوق أدبي ممتاز، نسوق لك منها هذا المثل الذي يذكره في صفحة «66» موازنا بين بيت امرئ القيس:
Bog aan la aqoon