وكاشفه صادق برأيه في الليلة التالية، وكأنه لم يفاجأ بالاقتراح وقال: فكرت في ذلك طويلا، ومن العدل أن تجرب حظها مرة أخرى.
وحرر لها رسالة رقيقة بطلبه، وتم الطلاق، وتنفسنا جميعا الصعداء، ولكن يخيل إلي أن طاهر لم يكف عن الرغبة في الموت وانتظاره.
وزهد إسماعيل قدري في المحاماة فانتظر حتى يستحق المعاش وأحال نفسه عليه، وفي فترة عودة الأحزاب، وعودة الوفد بالذات، خفق قلبه وناوشته أحلامه القديمة، حقا إنه اليوم شيخ أبيض الرأس ولكن الحزب الجديد عامر بذوي الرءوس البيضاء، ومنهم من يكبره بعقد أو عقدين من السنين، ولكن طاهر عبيد سأله: ما رسالة الوفد اليوم؟
فأجاب بقوة: الدفاع عن الديمقراطية.
فقال طاهر: والدفاع عن الاقتصاد الحر ثم تصفية ثورة يوليو، وبذلك يكرس نفسه كالحزب الأول للرجعية. - لا يمكن أن يتجاهل مطالب العدالة الاجتماعية وهو أول من سبق إليها في إطار زمانه. - هذا ما يقوله الحزب الوطني، فما معنى أن يقوم حزبان لتحقيق رسالة واحدة؟!
وجعل يفكر في الموضوع، ويتابع الحوار بين عقله وقلبه، ولكن الظروف اضطرت الوفد إلى تجميد نشاطه فأعفته من حيرته.
وبدا إسماعيل مع مرور الأيام أصحنا بدنا وأيقظنا فكرا وأشغفنا بالاطلاع المستمر، وما زالت ست تفيدة متشبثة بالحياة رغم تفشي الشيخوخة في جسدها وروحها، حتى أوشكت أن تنسى ابنها المهاجر. وأكبر ما واجه الأسرة في ذلك الوقت مشكلة أعباء المعيشة؛ فرغم إيراد ست تفيدة ومعاش إسماعيل ومدخراته من العمل لم تطمئن إلى التغلب على الغلاء مع المحافظة على مستوى معقول من الحياة، وكانت ست تفيدة تملك خرابة في السبتية فاقترح صادق على إسماعيل بيعها والانتفاع بارتفاع سعر الأرض الأهوج، وأقنع إسماعيل حرمه بذلك، وبيعت الخرابة بخمسين ألفا من الجنيهات، ووهبته هدنة طويلة يطمئن بها القلب ويستقر، وغلب عليه بوضوح ميله إلى الروحانيات والتصوف ، واستشهاده بيننا بأقوال كبار الصوفيين وشرح رموزها، وتفرد بذلك فلم يحظ بمن يستجيب له أو يأنس إليه؛ فصادق صفوان مؤمن بسيط لا قبل له بالشطحات أو الرموز، وحمادة هواه في التنقل، يتصوف معه ليلة وينقلب عليه في الليلة التالية فيسخر منه ومن جميع الأقطاب، أما طاهر فلا دين له، وقد سأله مرة: أأنت دارس محب للاستطلاع أم تبغي السير في الطريق؟
يا له من سؤال يطرح على رجل يؤمن الإيمان كله بالعقل والعلم ولا يستطيع أن يتخلى عنهما. وأجاب: الإلهام وسيلة للمعرفة كالعقل ولكل منهما مجاله.
فقال طاهر: أما العقل فنعرفه معرفة حميمة، أما الإلهام فنسمع عنه فقط. - ويمكن أن نعرفه أيضا، وقد عرفه الكثيرون.
فابتسم طاهر في استهانة وقال ساخرا: علينا أن نتوقع أن تجيئنا يوما مرتديا خرقة معرضا عن الدنيا وما فيها.
Bog aan la aqoon