إنه مكبوت ملهوف ذو شوق قديم، وهي خفيفة وتعلن خفتها عن فائض من الحيوية، فهو شهر عسل مفعم بالعسل، ورجع إلى دكانه بعد عطلة امتدت ثلاثة أيام، وباشر عمله بمفرده بعد أن أتم مندوب رأفت باشا مهمته في تدريبه. وأصبح الدكان ملتقى الذاهب والجائي، فهو دكان الخردوات الوحيد وهو ضربة معلم، وخلو العباسية من الدكاكين يرجع إلى كون مساكنها على الجانبين خاصة، سرايات في الشرق وبيوتا في الغرب، ولا توجد الدكاكين إلا بهدم بيت وإقامة عمارة في موضعه، وانهمك صادق بكليته في الحب والتجارة، أما السياسة والثقافة فتراجعا إلى هامش حياته، قال له حمادة الحلواني: حياتك الراهنة لا تتسع للقراءة.
فقال صادق آسفا: الجريدة على الأكثر، وقد أقرأ مقالا في المجلة.
أما الوطن فقد تردى في أحداث مباغتة؛ تصدع الائتلاف وألف محمد محمود الوزارة، فأوقف الدستور، وقام الصراع بين الوفد بزعامة النحاس من ناحية وبين الملك ومحمد محمود والإنجليز من ناحية أخرى، وكان إسماعيل قدري أشد الجميع انفعالا، هكذا هو متطرف دائما في السياسة والثقافة والجنس، حمادة دونه في الانفعال والحماس بما لا يقاس رغم أن الباشا والده من أساطين الصراع، واشترك إسماعيل في كل مظاهرة طلابية، على حين اكتفى صادق بإعلان امتعاضه، ولم يشترك حمادة في المظاهرات خارج أسوار الجامعة .. كأنما كان يترفع عن الاندماج في الجماهير، ولبث طاهر في موقف شبه حيادي، لم يعد يعلن تأييده لموقف أسرته ولكنه لم ينضم للجانب الآخر، وقال لنا يوما: فليحل القضية من يحلها، إن لم يكن مصطفى النحاس فليكن محمد محمود.
ومرة أخرى أعلن ملاحظة لم نلتفت إليها من قبل، قال: ألا ترون معي أن الوفد تقدمي في السياسة ورجعي في الفكر، وأن الأحرار رجعيون في السياسة وتقدميون في الفكر؟!
والحق أننا في الثقافة لم نكن نفرق بين وفدي ودستوري، ولا نتأثر بعواطفنا السياسية في تقدير من يستحق التقدير من خصومنا، بل ألم نفتن بكتاب أعدائنا أنفسهم من الإنجليز؟!
وبقدر ما تحظى به حياتهم الثقافية الحرة من ازدهار وتقدم وجرأة فإن دراستهم الجامعية تعثرت في الفتور المنذر بالفشل؛ حمادة يتلقى محاضراته القانونية في برود ولا مبالاة، إسماعيل قدري يعتبر نفسه منفيا في كلية الآداب ليحصل على شهادة لا يحبها ليشتري بها وظيفة يمقتها، ويواسيه صادق فيقول له مشجعا: بوسعك أن تكون أستاذا كبيرا.
فيقول: إذا حيل بين إنسان وهدفه فقد قضي عليه بالموت.
أما طاهر فثابر على نشر شعره الجميل، وثبت أقدامه في مجلة الفكر، ومضى يترجم لها مختارات من الفرنسية، وهي من ناحيتها نفحته بمكافآت مالية سعد بها سعادة غير محدودة وأنفق بعضها علينا في صورة حلوى ممتازة من جروبي، وأنذرناه بمعركة قادمة مع والديه، فقال ضاحكا: لتكن معركة.
فقال له صادق: اجبر بخاطرهم وانجح ثم افعل بنفسك ما تشاء بعد ذلك.
فأجاب بإصرار: لا أحب العبودية.
Bog aan la aqoon