ذو هيئة شعبية ومزاج شعبي رغم نشأته في فيلا نصف أوروبية، كيف أفلت من قبضة الباشا والهانم؟ في نظر الوالدين نحن نتحمل مسئولية السقوط. وهو أكول بطبعه، وعلمناه نحن حب الرمرمة، فعشق لحمة الرأس والفول والفلافل والممبار والكبد والمشبك والهريسة والكسكسي والباذنجان المخلل. بل تقدمنا جميعا في الاقتباس من قاموس الشوارع والحواري ورصع أشعاره الأولى بألفاظها المتمردة. وبدأنا طريقنا الثقافي بالقصص المؤلفة والمعربة، أما هو فبدأها بالشعراء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران. ورغم النقد والترشيد فالمرحلة الابتدائية تعتبر أسعد أوقات حياته من ناحية العلاقة مع والديه؛ أسعدهما بتعلمه الفرنسية وبحفظ الشعر وصوغه، واعتبر الباشا ذلك كله من آي الذكاء المدخر للطب، ويتساءل طاهر في حيرة: أي علاقة بين الشعر والطب؟!
وكنا بوحي من غريزة حب البقاء نتجنب الاقتراب من فيلا الأرملاوي باشا أن تقع علينا عينا الباشا أو الهانم، والحق أن فضلا غير منكور يرجع إلينا في تفجير موهبته الشعبية التي ازدان بها شعره بعد ذلك، بل جررناه معنا لاستقبال سعد حين عودته من منفاه الثاني، كونت شلتنا موجة صغيرة في بحر متلاطم هدرت أمواجه في ميدان الأوبرا. لم نشهد في حياتنا منظرا رائعا كذلك المنظر، وابتلعتنا حومة الحماس وفرحة النصر وعزة الجماهير الملتحمة، وانسربت إلى قلوبنا الفتية عواطف متأججة وتيارات فدائية ومشاعر مجنحة تطير في الفضاء فوق هموم الحياة اليومية. رددنا الهتافات لمصر وسعد حتى بحت أصواتنا، وثمل طاهر بالسكرة الطارئة فنسي موقف أسرته من الزعيم القادم، وعندما هلت علينا سيارة الشيخ، عندما لمحنا من موقعنا فوق سور الأزبكية قامته المترامية، ووقاره الجذاب، جن جنوننا، واشتعلت جوارحنا بنيران مقدسة، واختزن وعينا في سراديبه .. يوما وذكرى وصورة لم يعد في الإمكان أن تتلاشى. واستقبلت العباسية بعد ذلك التاريخ أياما سعيدة صاخبة، فسمعنا لأول مرة عن الانتخابات والبرلمان، وطفنا بالسرادقات، واستمعنا إلى الخطب والأشعار والأزجال، ولم يكن آن الأوان بعد لنسجل أسماءنا في الناخبين. وعن طريق طاهر عرفنا رأي الباشا أبيه فيما يجري حولنا، فهو يرى مثلا أنه من التهريج أن يتم اختيار الحكام بهذه الطريقة البهلوانية، وأننا نقلد أوروبا في النتائج متجاهلين المقدمات والأسس. بخلاف يسري باشا الحلواني الذي أكد لنا في خطبته الختامية أن صوت الشعب من صوت الله، والواقع أنه لم يكن خطيبا مفوها، ولكن الحفل كان حافلا بالخطباء والشعراء، على حين أضفى عليه اعتقاله هالة من العظمة والجاذبية، وقال طاهر لأبيه: النفي والسجن والاعتقال هي مؤهلات المعركة.
فقال الباشا بازدراء: الحكم علم وخبرة ومقدرة لا نفي أو سجن أو اعتقال.
ولم تكن إنصاف هانم القللي دون زوجها في احتقاره لما يجري. •••
لإسماعيل قدري علينا ما يشبه القيادة، هذا حقه لتفوقه المدرسي، وللتفوق المدرسي امتياز لا ينكر، وله منزله خاصة عند المدرسين، بالإضافة إلى الإثارة التي يبعثها بسبب مغامراته الجنسية، وهو منذ البلوغ غدا موضع التفات خاص من أمه فضاعت من يديه فرصة السطح، وتحول بغريزته إلى غابة التين الشوكي يستدرج إليها صغار البائعات المتجولات، وثابر رغم ذلك على تدينه مثل صادق صفوان، وأثرت خزانته بمعلومات كثيرة استمدها من أمه عن الآخرة والحساب وعذاب القبر، وظل على شغفه بتخيل صورة الله، حتى قال لنا مرة: لعله شيء مثل سعد ولكنه يمارس سلطانه في الكون كله!
وضحك طاهر وعلق على ذلك قائلا: عرفت الآن لماذا لا يصلي أبي!
وهو يحظى بسعادة لما يحرز من منزلة بيننا فيعوضه ذلك عن بساطة أسرته، إنه الوحيد بينهم الذي تخلو شجرته من أي فرع ذي امتياز. حتى صادق صفوان وهو يماثله في المستوى يمت بصلة قربى إلى رأفت باشا الزين أما هو فلا قريب له يبل الريق، والبيت القديم الذي ورثه أبوه باعه وهو يزوج أخواته؛ لذلك فعندما انجذبنا جميعا نحو الثقافة كان يستعير الكتب للقراءة الحرة من مكتبتي حمادة وطاهر، ولم يشغله شيء عن إحساسه الوطني وحماسه الفائق للوفد الذي بلغ درجة من الحرارة لا تكون إلا للعقيدة الدينية، وهذا ما جعله يتجه نحو مدرسة الحقوق فتنة بالقانون والمجد والسياسة، لم يعد الطب ولا الهندسة مما يشبع طموحه بعد أن أصبح سعد زغلول مثله الأعلى في الحياة، وهو الذي حرض طاهر على والديه قائلا: السمع والطاعة للموهبة.
ويضايقه ولا شك هذا السؤال الذي يلحون به عليه «كيف تجمع بين العبادة ومغامرات الغابة؟!» .. فقال لنا يوما: عقب كل صلاة أستغفر الله كثيرا .. ولكن ما الحيلة مع نيران متأججة؟! •••
وفي غمرة الأحداث والحماس استعد كل منا لامتحان الشهادة الابتدائية، ونجحنا جميعا، إسماعيل في المقدمة ونحن وراءه، والتحقنا بمدرسة فؤاد الأول الثانوية لنمضي بها خمسة أعوام ما بين 1923 و1928، ولأول مرة نرتدي البنطلون الطويل ونقلع عن شراء البدل الجاهزة. أعوام انقضت في مراهقة وسياسة وثقافة وحب، وفي عامنا الدراسي الأول هدانا الهادي إلى مقهى قشتمر، إنه أحد أفراد شلتنا الهامة التي تلاشت تدريجيا مع الزمن ويدعى الصباغ، قال لنا ذات يوم: مجلسنا تحت النخلة لم يعد بالمكان المناسب، عثرت لكم على مقهى مناسب.
روعتنا لفظة المقهى الذي يعتبر عند أهلنا من المحرمات، كيف نجلس بين رجال في سن آبائنا وهم يدخنون النارجيلة؟! وقال الصباغ: لا تكونوا جبناء، آباؤنا توظفوا بالشهادة التي حصلتم عليها في الصيف الماضي، والمقهى بعيد عن الأنظار، يقع عند التقاء الظاهر بشارع فاروق، صغير وجديد وجميل وذو حديقة صيفية صغيرة، وما علينا إلا أن نختار ركنا منزويا للسمر ولعب الطاولة وشرب الشاي والقرفة والقازوزة.
Bog aan la aqoon