قرشية الخلافة
محمد يحي سالم عزان
تشريع ديني أم رؤية سياسية
Bogga 1
تقديم بقلم المفكر الإسلامي / زيد بن علي الوزير
كان توفيقا من الله سبحانه أن يستهل العلامة الكبير "محمد يحيى عزان" سلسلة كتاب المسار الأول بكتابه القيم "حديث الإفتراق تحت المجهر" ليفتتح به سلسلة من الكتب يحاول مركز التراث والبحوث من خلالها معالجة القضايا الغائمة والمعقدة، ومن ثم العائقة. والحق أن كتابه ذلك كان مجابهة علمية رصينة للمألوف الذي تقدس بفعل الانحرافات السياسية، والذي استعصم بفعل التراكم الطويل بالقلاع المحصنة والجيدة التحصين، لكن المؤلف وهو يمتلك أدواة البحث اللازمة تمكن بإسلوبه العلمي الهادى والرصين أن يفعل في الأسوار المحصنة ما لا تفعله القذائف الموجهة، إذ فتح بطريقته الهادفة فيها منافذ للضوء النقي، تمكن الباحث من النظر في الأعماق الغائرة.
واليوم يطالعنا بكتاب "قرشية الخلافة: تشريع ديني أم رؤية سياسية" وهو موضوع لا يقل صعوبة ولا عسرا من الأول، ولكن- وقد نذر نفسه لمجابهة الخطأ- لابد أن يمضي في طريقه لأن المسير والمصير عهد وتعهد يقضيان بالتفتيش عن العوائق الرئيسة لمعرفتها على حقيقتها بغية الوصول إلى مستقبل رشيد. وإنه ليعلم أن ما يسعى إليه ويحاول بلوغه هو الصدام مع من يقف وهم الأكثرية وراء فهم تدين خطاء، وتقدس غلطا، وأنه ليعلم علم اليقين أن تعرضه للمنحرفات المقدسة سوف يفسر وعلى مستوى واسع أن جهاده ضرب من التعرض للمقدسات الدينية الحقيقية نفسها، ولكن عقل الباحث وضمير المؤمن فيه تغلبا على رهبة الإقدام. لم يسمح له عقله أن يرضى عن إيقاع الزمن السائد، وهو لايكلفه سوى أن يلجم لسانه، لكنه وهو من الذين يرفضون لجام النار مضى يعزف وسط الجوقة الهائلة والكبول المثارة صوتا نقيا سوف تصل تراتيله إلى العقول رقيقة هادئة، مظللة بسلام اليقين المطمئن.تقديم بقلم المفكر الإسلامي / زيد بن علي الوزير ¶ كان توفيقا من الله سبحانه أن يستهل العلامة الكبير "محمد يحيى عزان" سلسلة كتاب المسار الأول بكتابه القيم "حديث الإفتراق تحت المجهر" ليفتتح به سلسلة من الكتب يحاول مركز التراث والبحوث من خلالها معالجة القضايا الغائمة والمعقدة، ومن ثم العائقة. والحق أن كتابه ذلك كان مجابهة علمية رصينة للمألوف الذي تقدس بفعل الانحرافات السياسية، والذي استعصم بفعل التراكم الطويل بالقلاع المحصنة والجيدة التحصين، لكن المؤلف وهو يمتلك أدواة البحث اللازمة تمكن بإسلوبه العلمي الهادى والرصين أن يفعل في الأسوار المحصنة ما لا تفعله القذائف الموجهة، إذ فتح بطريقته الهادفة فيها منافذ للضوء النقي، تمكن الباحث من النظر في الأعماق الغائرة. ¶ واليوم يطالعنا بكتاب "قرشية الخلافة: تشريع ديني أم رؤية سياسية" وهو موضوع لا يقل صعوبة ولا عسرا من الأول، ولكن- وقد نذر نفسه لمجابهة الخطأ- لابد أن يمضي في طريقه لأن المسير والمصير عهد وتعهد يقضيان بالتفتيش عن العوائق الرئيسة لمعرفتها على حقيقتها بغية الوصول إلى مستقبل رشيد. وإنه ليعلم أن ما يسعى إليه ويحاول بلوغه هو الصدام مع من يقف وهم الأكثرية وراء فهم تدين خطاء، وتقدس غلطا، وأنه ليعلم علم اليقين أن تعرضه للمنحرفات المقدسة سوف يفسر وعلى مستوى واسع أن جهاده ضرب من التعرض للمقدسات الدينية الحقيقية نفسها، ولكن عقل الباحث وضمير المؤمن فيه تغلبا على رهبة الإقدام. لم يسمح له عقله أن يرضى عن إيقاع الزمن السائد، وهو لايكلفه سوى أن يلجم لسانه، لكنه وهو من الذين يرفضون لجام النار مضى يعزف وسط الجوقة الهائلة والكبول المثارة صوتا نقيا سوف تصل تراتيله إلى العقول رقيقة هادئة، مظللة بسلام اليقين المطمئن.
السياسية؟ هذه القرشية التي نحرت الخلافة الراشدة باسمها، وأجهضت الحقوق السياسية على مذبحها، وسحقت الإرادة الجماعية تحت عقبها. لقد أصبحت القرشية دينا عنصريا، بعد أن أنتهى ألق خلافة الأمة في ربوع صفين، ووضع التاج على مفرق دمشق، وانطوت العمامة من على منابر المدينة والكوفة.
لم تعد القرشية في التراث الإسلامي موضوعا سياسيا فقط، بل أصبحت منذ الإنقلاب الأموي دينا شرعيا عند الحاكم والمعارض على السواء، حتى غدا التعرض لها نقضا خروجا على الدين، والإقدام عليها تثبيتا دخولا فيه، ومن هنا يعتبر الإقدام على بحث القرشية بحثا محالفا للمألوف مغامرة حقيقية تعرض صاحبها إلى بلاء شديد، خاصة إذا عراها من أرديتها المصطنعة. ذلك أنه منذ سقوط خلافة الأمة أصبحت القرشية هي لب النظرية السياسية، وأصبحت من اليقين حتى عند غير القرشيين من المسلمات التي لا تقبل نقضا. وأمام نتائج الأمر الواقع وجد مشرعوا السلطة أنفسهم بصدد مأزق محرج لم يجدوا منه مخرجا سوى التسليم عندما وجدوا أنفسهم أمام حكام أقوياء وأغنياء من غير القرشيين بشرعية التغلب حتى لا يهتكوا للقرشية سترا، فانتهكوا بذلك التشريع الفضيع ما هو أهم من ستر القرشية هتك خلافة الأمة نفسها، لقد أدت شرعية التغلب إلى نسف الانتخاب والتبادل السلمي للسلطة تماما.
Bogga 2
وهكذا أوصل مشرعوا التغلب خلافة الأمة إلى الأنهيار الكامل، بل وإخراجها من الصورة. ومن هنا يتبين جريرة الفقه السياسي المضاد لفقه خلافة الأمة، ذلك الفقه السياسي الذي نصب صنما سياسيا إسمه قريش باسم الدين نفسه، وليس بإسم إجتهاد مجتهد، أو رؤية مذهب، وإنما باسم الله ورسوله، ثم أحله محل حق المسلم متى توفرت له شروطها اللازمة في القيادة. وبفعل القوة وخداع علماء التسلط وجدت الأمة نفسها إزاء ما يضخه علماء التسلط من تشريعات باسم الدين تتعبد لهذه الأصنام المتوحشة، وتقيم لها الشعائر، وتحرق لهياكلها البخور، بعد أن كانت تتعبد بمفاهيم الله والرسول والناس وسط المسجد عندما يهتف الهاتف من مآذن الصلاة بصلاة الشورى: الصلاة جامعة.
مالبث التعبد بفصل دعم الدولة وإرهابها ومشايخها في التديين لهذا الصنم القرشي السياسيأن أصبح تيارا ساحقا لا يقف أمامه أحد، ودينا شرعيا معترفا به عند الأمة، باستثناء الخوارج، وبعض المعتزلة، وبعض أئمة الزيدية، وبعض علمائها. ولأن الخوارج غير مقبولين عند العامة والخاصة لتطرفهم الشديد الذي عرفوا به؛ فقد انسحق مفهومهم الرائع لحق المسلم وليس القرشي فقط في الخلافة تحت ثقل هذا البغض وتلك الكراهية، ثم لاستغلال الحكام لموقف الناس هذا منهم، وفي صخب التيار القوي أيضا ماتت أصوات بعض المعتزلة، وبعض أصوات أئمة الزيدية ، وبعض علمائها وسط الهدير العالي.
يسلمنا هذا الإستعراض المركز إلى أمرين.
الأول: إلى معرفة كيف قاد التمسك بالقرشية المفتعلة من الناحية العملية إلى سلسلة من الإخفاقات التشريعية أنزلت بالأمة حاصبا من الشقاء، وبخلافة الأمة الإنتخابية وابلا من مطر السوء.
والأمر الثاني: إلى البحث عن هذه المعضلة المزمنة، وخاصة من حيث تأثيرها الأعمق، أي من ناحية تديينها.
Bogga 3
والأمر الأول قد كثر الحديث فيه، بينما بقي الثاني مقفلا إلا من دراسات حوله، وليس من داخله. وهذا الكتاب الذي كان في الأصل مقال نشرته المسار ثم توسع فيه يفتح المقفل، ويدخل إلى المغلق، يفتش دهاليزه المظلمة، وممراته المعتمة، ومنعطفاته الملتوية، ثم يخرج منه وهو يتحدث عنه حديث صدق في الأخرين، وبموضوعية عرفت عنه.
والحق أنه من خلال هذه الكتاب يتبين بوضوح مابعده وضوح: أن العلامة الكبير قد تصدى لهذا الموضوع الهام بشجاعة المؤمن، وصبر الباحث، ويقين المستبصر، فغاص في الأعماق تحت الأمواج المتراكمة، وحلق في الأودية المتشعبة، وطار في الآفاق الواسعة بجناحين قويين، ومضى فوق الهاويات السحيقة، متتبعا النصوص، باحثا عن الرجال، مدققا في الرواة، تتبع باحث مدقق خبير، ومع أن الرحلة شاقة وعسيرة ومضنية، إلا أن التعي والنصب لم يفقد مؤلفنا الكبير صبره ولا تأنيه؛ فلم يختزل القضايا إختزالا، بل كان يوسعها بحثا واستقصاء حتى اكتملت بين يديه، واستوى أصلها وفرعها؛ وإن كتابه هذا بحق نتيجة بحث مستفيض زدلاتية وعقنية يعتز بها طلاب البحث العلمي. ولأنه كذلك فسوف يوفر المتعة الذهنية والفائدة التاريخية لمن يتجول في ربوع هذا الكتاب النضير.
أستطيع أن أقول بحق أن عالمنا الكبير المدقق قد ترك الباب مشرعا لمن يريد أن يدخل إلى أعماق القبو الذي كان مقفلا. لقد أضاء فعلا سرجه، وأنار دروبه، وليس على الداخلين فيه من خطر. لقد انجز الرائد استكشافه.
زيد بن علي الوزير
لندن الأربعاء: 13 رجب1423/ 10سبتمبر 2003 قرشية الخلافة
Bogga 4
تشريع ديني أم رؤية سياسية
مقدمة
يعيش الإنسان في الحياة لهدف، ويصارع المتاعب لغاية وأمل، فإذا ضاع هدفه الفطري وفقد أمله الواقعي، بحث عن بدائل يتسلى بها ويعيش على هامشها.. ولكنها سرعان ما تتحول إلى غايات وأهداف؛ تتبخر على أثرها المقاصد الحقيقية، ويعلوها غبار النسيان، وتشيد على أنقاضها صنميات مختلفة: دينية، وسياسية، واجتماعية، غير أن أشدها خطرا، وأوسعها انتشارا، وأكثرها سلبية، ما يقدم في قوالب دينية وعقائدية؛ لما لذلك من تأثير في نمط تفكير الإنسان ومن ثم في سلوكه ومواقفه.
وعندما جاء الإسلام لتصحيح وضع الإنسان وتقويم حياته؛ كان عليه أن يعيده إلى فطرته ويزيل عنه غبار الموروثات الدخيلة عليها، ويحرر عقله من أغلال الصنمية بكل أشكالها، ليتعامل مع الحقائق كما هي، ويتحرك في الحياة بعيدا عن مخلفات المجتمع الجاهلي وتأثيراته؛ وذلك ما عمد إليه الإسلام بالفعل، حين قاد ثورة على الصنمية والجهل، معلنا أنه لا إله في هذا الكون غير خالقه.. ولا طاعة لأحد سواه.. وأن قيمة كل امرئ ما يحسنه؛ فصار الإسلام بذلك مطلبا حياتيا تسابقت إليه البشرية على اختلاف مشاربها، وتجاوزت دعوته كل الحدود، واخترقت مختلف الحضارات، وأصبح للإنسان موطنا وعشيرة، ومنهجا يحميه ويحرسه.
Bogga 5
وكان مما جاء به الإسلام ودعى إليه تنظيم حياة الناس من خلال اختيار قيادات للمجتمع، توجهه وترعى شئونه، باعتبار ذلك مسؤولية يتحمل عبئها أصحاب الكفاءة القادرون، ليحققوا للناس حياة كريمة مستقرة، ثم وضع مقاييس للكفاءة واستحقاق الزعامة تتلاءم مع مصالح الإنسان وفطرته ومنهج حياته؛ ولكنها لم تلبث طويلا حتى طغت عليها المزايدات وغيبت بين ركام الدعاوى والتنافس، وتحولت مع الزمن إلى بؤر للخلاف الساخن، وأساس لكثير من أشكال الخصومة والنزاع، «فأفضت الحال إلى أن صار الموافق في الإمامة معظما مقبولا، وإن كان من أخس الناس، والمخالف في عقيدتها ملوما مذموما وإن كان من أبلغ الأكياس؛ حتى كأنه لم يشرع من الدين، ولا بعث سيد المرسلين إلا لهذه المسألة، وأما بقية الأركان فمغفلة مهملة»(1). فالكل يزعم أنه الأولى بالتميز، والأحق بالزعامة؛ لاعتبارات هامة في نظره، يسعى لتسريبها بشكل أو بآخر إلى قناعات الآخرين، ولو أحتاج في سبيل ذلك للخشونة، حتى قال الشهرستاني: «ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان»(2).
ومن أبرز القضايا الساخنة في هذا الجانب وأكثرها حساسية دعوى استحقاق الخلافة على أساس العشيرة والعرق، وما صحب ذلك من حشد للأدلة وتطويع للنصوص لجعلها إما مسألة من مسائل أصول العقيدة وأما حكما شرعيا ثابتا لا يدخله الاجتهاد، ولا يجوز إعادة النظر فيه.
Bogga 6
مع أن ذلك القول قد يكون - اليوم - مما تجاوزه الزمن وعفى عليه؛ لأن سلطة العصبيات قد تضاءلت، وتغيرت معطيات الحياة السياسية والاجتماعية، فلم يعد لأي نوع من تلك المزاعم واقع في حياة الناس، فلا فائدة للبحث فيه، وقد يكون البحث في حقيقتها بالغ الأهمية؛ لأنها ظلت الصوت المسموع فترة طويلة، وقدمت للناس في أجواء موبوءة بالاستبداد السياسي والصراع الاجتماعي، فورث كإحدى المسلمات، وصار لها قدسية تحول دون نقدها وتقييمها، لأن أقل ما ينتظر الباحث في هذا المجال - إن خلص إلى غير المألوف - الشتيمة والتجهيل والرمي بالابتداع والخروج عن الثوابت.
وأيا كان فالمسألة لا تزال تلقي بظلالها في الحياة الفكرية، وتتسبب في كثير من أشكال الخصومة والنزاع، لاسيما وأن لها صلة بالزعامة والسيطرة التي يتصارع الناس لأجلها، ويبحث كل عن مؤهل للوصول إليها، كما أن لها علاقة بالعصبية التي من شأنها أن تظل كامنة لتنتفض في أي وقت تكون الفرصة فيه مواتية والأجواء مهيأة.
قد قررت أن أخوض غمار هذه اللجة المتلاطة بالتناقضات المليئة بالتعصبات، فأسأل الله التوفيق والسداد.
قريش.. من الزعامة التاريخية إلى الإسلام
ظلت القبائل العربية زمنا طويلا تعيش حالة من التشتت في أرجاء جزيرة العرب، وكان بنو إسماعيل بن إبراهيم أكثر القبائل تواجدا في مكة ونواحيها، وكانوا يتعرضون من وقت لآخر للحروب والتشرد كالقبائل الأخرى، إلى أن ظهر فيهم «قصي بن كلاب» وكان صاحب رأي سديد وبصيرة نافذة، فقام بتجميعهم في مكة بجوار البيت الحرام، وسموا حين ذاك قريشا، وأسس لهم مجلسا للشورى عرف حين ذاك ب(دار الندوة)، فكانوا لا يقدمون على شيء في سلم أو حرب إلا بعد أن يجتمع فيه زعماؤهم، ويقررون ما يتعين عليهم فعله، وقد أدى ذلك إلى شعورهم بالاستقرار لأول مرة في تاريخهم.
Bogga 7
وتمكنوا من الولاية على البيت الحرام الذي يتمتع بمكانة دينية عند العرب، فكانوا يقومون على خدمة الحجاج القادمين إلى مكة من مختلف البلاد العربية، ويتنافسون في إطعامهم وسقايتهم، مما جعل القبائل العربية تجل قريشا وتقدر صنيعها، حتى أن قوافلهم كانت تتنقل في البلدان آمنة دون القوافل الأخرى، فمكنهم ذلك من تحريك تجارتهم في مختلف الجهات، وإقامة أسواق في ديارهم يفد إليها الناس من سائر القبائل والبلدان المجاورة، إضافة إلى أن زعماء قريش أقاموا شبكة من العلاقات بالدول المجاورة والقبائل ذات النفوذ في جزيرة العرب، وبذلك استقرت أوضاعهم التجارية والأمنية، وقد ذكر الله قريشا بتلك النعمة، فقال تعالى: ? لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)?(قريش).
وبهذا ندرك الحكمة من اختيار مكة لتكون موطن الدعوة الإسلامية الجديدة، فقد كانت بالنسبة للعرب قبلة الدنيا والدين، وفيها قريش أبناء إسماعيل، وقدوة القبائل العربية ومحل احترامهم.
***
ومنذ فجر الدعوة الإسلامية احتلت قريش مكانة ملحوظة في اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان شديد الحرص على استجابتها للإسلام، وبذل لذلك ما بوسعه؛ لأنه كان يدرك أن القبائل العربية المنتشرة في أرجاء الجزيرة تتأثر بموقف قريش قبولا ورفضا؛ لما كانوا يتمتعون به من زعامة دينية، باعتبارهم سدنة البيت الحرام، وأهل جواره، والقائمين على خدمة الحجيج، وبقية ولد إسماعيل.
Bogga 8
وكان ذلك الاهتمام ظاهرا حتى في إشارات القرآن الكريم، الذي جاء فيه: ?وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها?(الشورى:7).. فاعتبار مكة الهدف الأول للدعوة، ووصفها ب(أم القرى) يعطي جملة من الدلالات، منها: أن استجابة أهل مكة للإسلام سيسهل استجابة القبائل الأخرى، ويحدث نقلة نوعية في مسيرة الدعوة.
ولكن قريشا سجلت أعتى تمرد على الإسلام، لشعورها بخطر الدعوة الجديدة على زعامتها التي ظلت تحافظ عليها مئات السنين، خصوصا عندما أدركت أن الإسلام يسعى لإحداث تغيرات جذرية في حياة المجتمع، تهدف إلى تحرير الإنسان وإعادة صياغة مفهوم الزعامة الدينية، وربطها بصلاح الفرد وكفاءته، لا بمجرد انتمائه إلى قبيلة أو انتظامه في جماعة، فكان قرار قريش - كتجمع - الرفض والجحود وعدم الإصغاء، حتى ? قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون?(فصلت: 26).
وأدى موقف قريش هذا، إلى استياء النبي صلى الله عليه وآله وسلم استياءا بالغا، فأنزل الله عليه: ?قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون?(الأنعام:33)؛ ليهون عليه ويكشف له أن موقفهم قائم على العناد والتمرد، وليس عن عقيدة يرونها خيرا مما أتاهم به.
ولم يكتف مشركو قريش بالرفض والجحود، بل تعدى ذلك إلى إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتضييق على أتباعه وقمعهم بطريقة بشعة تتنافى حتى مع أعرافهم وتقاليدهم، مما اضطر المسلمين للجوء إلى سواهم من القبائل الأخرى والقوميات المختلفة.
Bogga 9
وعندما أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المجتمع القرشي أصبح مغلقا، وأن المشركين قد أحكموا قبضتهم عليه، حتى صارت الدعوة فيه تراوح مكانها؛ قرر الهجرة - مكرها - إلى بلد آخر ليؤسس مجتمعا جديدا ويحرر الدعوة من عقدة قريش.
وعلم زعماء مكة بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة، فأبدوا انزعاجا تجاه ذلك؛ لأنهم كانوا يدركون أن دعوة الإسلام تحمل بذور البقاء وتتمتع بمقومات الاستمرار، ولا يأمنون إن تجاوزهم وحل بعيدا عن نفوذهم أن تقوى شوكته فيكون مصدر قلق لهم، لذلك قرروا قطع أسباب تلك المخاوف باتفاقهم على اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل خروجه من مكة، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك، فغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وهو يقول: «اللهم إن قريشا أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد»؛ فاستجاب الله دعاء نبيه فأسكنه (المدينة المنورة) بجوار قوم تميزوا بالنصرة الصادقة، والإيثار الحسن، والإيمان الراسخ.
معالم المجتمع الجديد
وفي دار الهجرة استقبل الأنصار من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المهاجرين باحترام وتقدير عوضهم عما تعرضوا له من اضطهاد قريش وطغيانهم.
وعلى امتداد عشر سنوات قضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قبل الفتح كان بتوجيه قرآني يضع بنيان المجتمع المسلم على قواعد راسخة وأسس متينة، كان من أبرزها:
Bogga 10
أنه اعتبر تميز الإنسان وتقديه قائما على الكفاءة والتقوى، وقصر دور التنوع القبلي والسلالي الذي كانت له الهيمة والمنعة على التعارف، قال تعالى: ? يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ?(الحجرات: 13). ولم يعد التنوع العرقي قادر كما كان على منح أي ميزة دينية لذاته، خصوصا عندما سمع الجميع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول لأقرب أقاربه: « يا فاطمة بنت محمد.. يا صفية بنت عبد المطلب.. يا بني عبد المطلب.. لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم!!» (1).
وتأثر المسلمون من مختلف القبائل والقوميات بتلك المفاهيم إلى حد كبير، وصار الجميع يأنسون بشرف الانتماء إلى الإسلام، وتجسدت روح الأخوة الصادقة في حياة المجتمع المدني، حيث سوى الأنصار أصحاب الأرض والديار المهاجرين القادمين من خارج المدينة بأنفسهم فتقاسموا معهم المال والديار، بل آثروهم على أنفسهم في كثير من الأحيان، حتى أثنى الله عليهم بقوله: ?ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة?(الحشر:9). وكان ذلك نجاحا مدويا؛ لأنه انتقال بالعرب إلى المجتمع المتكامل الذي ينشده الإسلام.
كل ذلك كان يحدث بعيدا عن قريش التي حرمها تعنتها ذلك الشرف العظيم.
Bogga 11
واشتد بنيان المجتمع المسلم، وظلت قريش في ضلالها مصرة على الكفر والجحود، وجعلت من نفسها العدو الأول للإسلام، والنائبة عن قبائل العرب في حرب المسلمين وأذيتهم، وتزعمت الأحلاف والتكتلات المناوئة لهم، ومع ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على استمرار العلاقة بالمجتمع القرشي، حتى إنه طلب من عمه العباس بعد إسلامه عقب بدر البقاء في مكة؛ ليكون حلقة وصل بينه وبين ما يجري بداخل مكة، إضافة إلى إقامته تحالفات مع بعض القبائل داخل مكة وجوارها كحلفه مع خزاعة. كما أنه استغل عهد الحديبية لإفساح المجال للتفاهم وخفض حدة التوتر، حتى إن بعض الصحابة رأي في بنود صلح الحديبية إجحافا بحق المسلمين.
التحول السريع
وحينما قهرت قريش على أيدي المسلمين وفتحت (مكة) عنوة وانكسرت شوكتها، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهلها كريما حين خلى سبيلهم، وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». فسجل بذلك الموقف صورة مشرقة من صور التسامح الإسلامي، وأراد أن ينزع بذلك ما في صدور المشركين من غل، ويدفعهم نحو الإسلام بقناعة تامة؛ لأنه كان يدرك أن إرغام الآخرين وإجبارهم على اتباعه لا يؤدي إلى قناعة ولا يبني عقيدة، والدين الإسلامي عقيدة، والعقيدة لا تقوم إلا على القناعة؛ فهي عدته وعتاده وأساس بنائه.
وبعد القضاء على تمرد قريش ومن دار في فلكهم انحلت العقدة، وأخذت مختلف القبائل العربية تتوافد على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مسيرات حاشدة مؤيدة للدعوة الإسلامية ومنتظمة تحت لوائه، حتى وصف الله ذلك التحول بقوله: ?إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا?(النصر).
Bogga 12
واستمر المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في توسيع دعوتهم لتتجاوز البلاد العربية إلى بلاد الفرس والروم وغيرها، فشكلت بذلك حضارة جديدة تستمد منهجها من تعاليم الخالق عز وجل، ولا تحد بحدود الأوطان والعشائر والحضارات.
***
وبعد الفتح شهدت المدينة أرسالا من الناس تدفقوا من مختلف الجهات نحو عاصمة المسلمين، رغم إعلان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن « لا هجرة بعد الفتح»(1). وهذا الإعلان يحمل كثيرا من الدلالات، منها: أن مكة وسائر البلدان التي أعلنت إسلامها قد صارت مجتمعا إسلاميا كالمدينة، فلا داعي للنزوح عنها. ومنها: أنه أراد التمييز بين المهاجرين الذين أثنى الله ورسوله عليهم لسبقهم وجهادهم وبين غيرهم من اللاحقين.
وكان معظم القادمين إلى المدينة من قريش، حيث لحق بها ألفان من مسلمة الفتح كما يقول المؤرخون بينما كان المهاجرون الأولون من قريش لا يتجاوزون بضع مئات.
ومع مرور الزمن استطاع القرشيون أن يمحوا من الأذهان إلى حد كبير مواقفهم السلبية ضد الإسلام، مستغلين مكانة المهاجرين السابقين وكونهم قوم رسول الله وعشيرته، وفي فترة وجيزة أخذت ملامح نفوذهم تبرز يوما بعد يوم، مما أوحى بصراع محتمل بين الزعامة التاريخية في جزيرة العرب المتمثلة في قريش، وبين الزعامة التي أراد الإسلام أن تقوم على أساس الكفاءة والصلاح.
Bogga 13
وأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يلوح في ذلك الأفق وما يمكن أن تسببه عقدة الزعامة من اضطراب في المستقبل المنظور؛ لاسيما وأن المجتمع الجديد بعد توسعة إثر فتح مكة لم ينصهر تماما في بوتقة الدعوة الإسلامية، فالنزاعات القبلية والأسرية لا تزال شبحا يصيب المجتمع بزخات ساخنة من التوتر والاضطراب، إضافة إلى أن الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تجديد المجتمع لم تتجاوز عشر سنوات فلم تكن كافية لتغييب واقع استمر أكثر من (ألفي عام)، وهي المدة التي حظي بنو إسماعيل فيها بمكانة دينية بين العرب، أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فاتخذ سلسلة من الإجراءات الوقائية، مثل:
* التأكيد على أن الزعامة مسئولية وتكليف لا أبهة وتشريف.
* الحظر التام لكل أشكال الطغيان والاستبداد.
* التحذير من المساس بحقوق الإنسان والتسلط عليه.
* ربط استحقاق أي زعامة بالكفاءة فيها والقدرة عليها.
* العمل على تطبيق حكم الله والانقياد لمن يقوم بذلك كائنا من كان
وهذا ما فهمه المسلمون فكان أحدهم إذا تولى أمر خافه قال للناس: أطيعوني ما أطعت الله تعالى.
ومن اللافت للنظر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتم تخوفه من تجاوز متوقع على حق الأنصار، فبادر إلى تعزيز مكانتهم بالثناء عليهم، وكان مما قال: «لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار»(1). وقال: «لو سلكت الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم»(2). وأوصى بهم فقال: « أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم»(3).
Bogga 14
وكأنه كان يتوقع شيئا ما، حين أقطع الأنصار أرض البحرين، فقالوا: لا، حتى تقطع إخواننا من المهاجرين مثل الذي أقطعتنا! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقونى»(1). فانظر كيف توقع لهم الأثرة رغم إيثارهم!!
السقيفة.. الأحداث والدلالات
بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حدث ما كان متوقعا، فقد رأى الأنصار أن لهم حقا في الخلافة بعده؛ لما لهم من السبق والنصرة، ولأنهم أصحاب الأرض والشوكة، وكانت تنتابهم مخاوف من أن يستحوذ قريش على الأمر دونهم ويستبدون به عليهم، فبادروا إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة لبحث أمر الخلافة، بعيدا عن المهاجرين، الذين يمثل القرشيون أغلبيتهم وذوو النفوذ فيهم، وكان سعد بن عبادة أبرز مرشحي الأنصار للخلافة؛ لما له من منزلة رفيعة في الإسلام، فقد عرف عنه حسن الصحبة وعظيم التضحية في سبيل الدين، وهو صاحب المواقف الشهيرة في نصرة الإسلام، إلى جانب مكانته في قومه، فهو سيد الخزرج كبرى قبائل الأنصار.
Bogga 15
وبينما الأنصار مجتمعون في السقيفة افتقدهم المهاجرون فسألوا عنهم فأخبروا بأمرهم، فتوجه أبو بكر نحوهم إلى السقيفة ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وهنالك جرت مفاوضات حرجة ومباغتة، لخص عمر بن الخطاب تلك الأحداث بقوله: « إن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة لتجهيز جنازة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلقنا نؤمهم حيث لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت: نريد إخواننا من الأنصار، فقالا: عليكم ألا تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين. فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة. فقلت: ما له؟ قالوا: وجع، فلما جلسنا، قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة منكم، تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحضنونا من الأمر - أي الخلافة -!!
فتكلم أبو بكر وقال: أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، ولن يعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب(1)، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
Bogga 16
وهنا تدخل عمر بن الخطاب كما تذكر بعض الروايات فقال: « هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم.. ثم أضاف متسائلا: من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته»(1)!! وقال أبو بكر: فنحن الأمراء وأنتم الوزراء. ثم كثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشيت الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار(2).
وبذلك التصرف فرض عمر بيعة أبي بكر أمرا واقعا، ووضع الناس بين خيارين: إما المتابعة والتصديق، وإما الخلاف والفرقة. وبرر ذلك بقوله: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد(3).
***
وبعيدا عن سقيفة بني ساعدة، كان بنو هاشم وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، والزبير بن العوام منشغلين بإعداد جنازة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان العباس بن عبد المطلب بحكم خبرته بطباع النفوس وتقلب الأحوال يشعر أن شيئا ما سيحدث، فقال لعلي بن أبي طالب: قم حتى أبايعك ومن حضر، فإن هذا الأمر إذا كان لم يرد مثله، والأمر في أيدينا. فقال علي: أيطمع فيه أحد غيرنا. قال العباس: أظن والله سيكون!؟
Bogga 17
وكان توقع العباس في محله فما هي إلا لحظات حتى سمعوا تكبيرا في المسجد، فسأل علي: ما هذا؟ فقال العباس: هذا ما دعوتك إليه فأبيت علي! فقال علي: أيكون هذا؟ فقال العباس: ما رد مثل هذا قط! فسكت علي حينها ومضى في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد الصلاة عليه ودفنه لم يذهب لبيعة أبي بكر وتوقف معه عن البيعة آخرون، العباس والزبير وغيرهم كما في (طبقات ابن سعد)(1).
وفي اليوم التالي وقبل دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتمع الصحابة في المسجد وأعلن أبو بكر خليفة، وتقدم كثير من الناس لمبايعته، رغم اعتراض بني هاشم وغيرهم على الطريقة التي تم بها اختيار الخليفة.
وهكذا حالت قريش بين الأنصار وبين ما كانوا يسعون إليه، وخرجت من تجربة السقيفة وهي ترى لنفسها حقا طبيعيا في الحكم، بحجة أنها صاحبة الزعامة التاريخية في بلاد العرب، وأن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، على حد تعبير (أبي بكر)، وأنهم أولياء رسول الله وعشيرته على حد تعبير (عمر بن الخطاب).
***
تلك كانت أحداث يوم السقيفة وما جرى فيها من اضطراب وتضمنت من مفاجئات، كما جاء في أشهر الروايات وأكثرها تداولا، وهي تؤكد أنما جرى جرى تحت تأثير الموروث الاجتماعي بكل ما فيه، وأنه كان أنسب الخيارات المتاحة على رأي فقريش كانت تتمتع بعصبية عشائرية واسعة، ولا يزال كثير من العرب يرى أن الزعامة فيهم، وذلك سيساعد على حفظ الدين وترسيخ دعائمه والإبقاء على هيبته، في وقت كان كثير من العرب لا يزالون حديثي عهد بالإسلام فلا يؤمن تمردهم، كما أن شيئا من العصبية والولاء أمر مطلوب في هذه المواطن، فنحن نشاهد الناس اليوم يفضلون تأييد الأحزاب القوية باعتبارها القادرة على ضبط الأمور وتسيير شئون الناس، ويوكلون إليها قيادتهم.
Bogga 18
وإذا كنا سنفرض صحة ذلك ونفسر ما حدث بأنه مجرد رأي وتكتيك للتمشي مع الواقع الذي كان يعيشه العرب فجر الإسلام، وأن ما بدا مجافيا لروح الإسلام، كان استجابة اضطرارية لظروف ومعطيات عاشها اولئك وغابت عنا؛ فإننا لا نستطيع أن نتجاهل ما كشفت عنه تلك الأحداث من حقائق، ونتج عنها من تداعيات.
أحداث السقيفة.. بين التشريع والمؤامرة
يعتبر ما وقع في السقيفة أول حدث بارز اختلف فيه الصحابة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك أخذ نصيبا وافرا من البحث والتحليل، وبدوافع شتى قدمه المختلفون في صور متباينة.
فمنهم من قدم ما جرى في السقيفة على أنه تشريع مقدس، جاء وفق أسس وضعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرشد إليها، وبالتالي فما نتج عنها فإنه يعد مثالا يحتذى، وحجة على الأجيال ملزمة.
وهذه النظرية رغم ما حشر لها من الشواهد مختلة من عدة وجوه:
الأول: أن عمر بن الخطاب وهو أحد صناع قرارات السقيفة قد أعلن بوضوح عدم شرعيتها، وبين أن ما حدث كان مجرد حل مرتجل نتيجة لظروف معينة، وذلك حينما بلغه أن بعض الصحابة قال: لو قد مات عمر لبايعت فلانا، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، فتمت. فغضب لذلك عمر، وقال إني إن شاء الله لقائم في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، ثم قام خطيبا، وقال: «أيها الناس إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك!! ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر.. من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه». هكذا في (صحيح البخاري) وغيره(1).
Bogga 19
فبين بوضوح أن ما تم في السقيفة لم يكن نتيجة لصيغة شرعية مقدسة، وإنما كان تصرفا فرديا مرتجلا سلم الله الأمة من شره، ويؤكد هذا قوله أيضا في شرح قصة السقيفة كما روى البخاري(1): «أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر ». فالمسألة إذا توفيقية ليس أكثر، فلا يصح أن يجعل أحد من أحداث السقيفة مرجعية، أو يشرع على ضوءها قانونا.
الثالث : أن المتحاورين في شأن الخلافة غداة وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء الذين كانوا في السقيفة أو غيرهم لم يستحضروا الاستدلال بما يسوقه المتأخرون من الأدلة، واكتفوا بذكر بعض الاعتبارات الاجتماعية، فرأى الأنصار أنهم الأحق بحجة أنهم أنصار الله وكتيبة الإسلام. فاحتج عليهم أبو بكر: بأن العرب ستتقبل خلافة قريش، باعتبارهم أوسط العرب نسبا ودارا. ولكن بعض الأنصار اقترحوا أن تكون القيادة جماعية، فيكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير. فأبى عمر بن الخطاب، بحجة أنه لا يجتمع سيفان في غمد. ثم حاول أبو بكر التوفيق بأن يكون قريش أمراء والأنصار وزراء، فحضي هذا الرأي ببعض القبول من الأنصار فسلم بعضهم. فكان الأمر كما قال الجاحظ: «إن أبا بكر خاطب قوما كانوا يرون للحسب قدرا، واللقرابة سببا، فأتاهم من مأتاهم، وأخذهم من أقرب مآخذهم، واحتج عليهم بالذي هو عندهم، ليكون أقطع للشغب، وأسرع للقبول»(2).
Bogga 20