Quranic Sciences According to Al-Shatibi in His Book Al-Muwafaqat
علوم القرآن عند الشاطبي من خلال كتابه الموافقات
Daabacaha
دار البصائر
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
Goobta Daabacaadda
القاهرة
Noocyada
شيخنا الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ﷺ وبعد:
فالأستاذ الدكتور محمد سالم- حفظه الله تعالى- شخصية علمية بارزة، وواحد من أبناء الأزهر الشريف، الذين حفظوا للأزهر مكانته، وللعلم حرمته، وللتراث العربي والإسلامي عزته ورفعته، وهذه سطور قليلة نتعرف من خلالها على جوانب مختلفة تقربنا من تلك الشخصية.
فقد ولد الأستاذ الدكتور محمد سالم أبو عاصي في العشرين من مارس سنة ١٩٦٢ م.
والتحق في أول الأمر بالمدارس الابتدائية ثم الإعدادية العامة التابعة لوزارة التربية والتعليم، وفي تلك المرحلة المبكرة من حياته بدأ يخطو أولى خطواته نحو رحلته العامرة في طلب العلم، فقد تعرف إلى رجل دانت له الأوساط الإسلامية الخاصة والعامة بكثير من الفضل والجهد، ذلك هو الداعية الإسلامي الشيخ" عبد الحميد كشك"، فقد تعرف إليه وانجذب إلى أسلوبه البليغ، وفصاحته القوية، وعربيته القحة، فاقترب منه، ونشأت بينهما من أواصر الودّ والمحبة ما جعل الشيخ يأنس إليه ويقربه منه؛ فقرأ عليه في تلك المرحلة بعض كتب ابن هشام كقطر الندى وغيره.
1 / 5
ثم انشرح صدره أن يلتحق بالأزهر الشريف؛ حتى يسير على الدرب وينسج على المنوال، فالتحق بالثانوية الأزهرية بالقسم العلمي، ولم يكن يكتفي ذلك الطالب النهم بما يلقى عليه في قاعات الدرس بالمعاهد الأزهرية، فسعى إلى العلماء في بيوتهم ومساجدهم ينهل من معارفهم، ويرتشف من علومهم ... لكنه لا يرتوي.
ثم التحق- حفظه الله- بكلية أصول الدين، فتعرف إلى علمائها، وتقرب من أفذاذها، نذكر منهم على وجه الخصوص عالمين جليلين:
الأستاذ الدكتور محمد عبد المنعم القيعي- ﵀ أستاذ ورئيس قسم التفسير بأصول الدين، الذي قربه منه، وأنزله منه منزلة الولد من الوالد، فأفاد منه فوائد عظيمة وحصّل منه علما جمّا، وقد أشرف الدكتور القيعي على الرسالة التي أعدها الدكتور محمد سالم لنيل درجة الماجستير وكان موضوعها:" تفسير آيات الشرط في القرآن الكريم"؛ ونظرا للمحبة العظيمة والرابطة القوية التي كانت تجمع بين الطالب وأستاذه، بل بين الولد ووالده، بكى الشيخ القيعي بكاء الفرح الممزوج بدموع الوداع بعد هذه المناقشة؛ فقد انتقل رحمة الله عليه، بعدها بأيام إلى مثواه الأخير، تاركا ولده يكمل رحلته في رعاية ربه أرحم الراحمين.
وثاني الأستاذين هو الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن خليفة- حفظه الله تعالى- الذي كان ولا يزال، يحتفظ بأوثق الصلة وأشد المحبة، بتلميذه وولده الدكتور محمد سالم، فقد أشرف على رسالته للدكتوراة، وكان عنوانها:" التعليل في القرآن الكريم دراسة وتفسيرا"، وهنا يجدر بي أن
1 / 6
أسوق كلمة معبرة عن وفاء الطالب لشيخه، وفناء الشيخ في علمه ورسالته وطلابه، يقول الدكتور محمد سالم في مقدمة الرسالة عن أستاذه الدكتور إبراهيم خليفة:" وبالجملة فهو جامع للمنقول والمعقول على حد سواء، وقد قرأ الأستاذ الدكتور معي هذا البحث حرفا بحرف، وصحح وحقق معي كثيرا من مسائله دون ملل ولا فتور، بل الحق يقال، إنه فتح لي قلبه الرحيم، وبيته الكريم، ومكتبته العامرة، ليل نهار للاستفادة في هذا البحث وغيره ... ".
وبعد هذا نقول لمن يمنحون الشهادات جزافا، والدرجات العلمية مجاملة واعتباطا: أين حمرة الخجل؟
نعود لصاحب هذه الترجمة فنقول: كما عرفته المعاهد الأزهرية، نهما شغوفا، محبّا مرتشفا لكأس العلم دائم الشرب لكنه لا يرتوي، كذلك عرفته كليات جامعة الأزهر الشريف، طالب علم جاد لا يكتفي بما يلقى عليه في قاعات المحاضرات بأصول الدين، فتقرب إلى علماء كلية الشريعة واللغة العربية؛ فمن أساتذة الشريعة العلامة الدكتور الفقيه الأصولي أحمد فهمي أبو سنة، والعلامة الدكتور الأصولي خاتمة المحققين الدكتور عبد الجليل القرنشاوي، والأستاذ الدكتور الفقيه الشافعي العلامة جاد الرب رمضان، والعلامة الدكتور الأصولي الحسيني الشيخ، والعلامة الدكتور عبد العال عطوة، والأستاذ الدكتور الشيخ أبو النور زهير، وغيرهم، وتقديرا له ولقوة تحصيله وسعة اطلاعه كتب له
1 / 7
الدكتور أحمد فهمي أبو سنة في إجازته إياه: عرفت فيه حبه للعلم وإقباله عليه، وجودة فهمه، وسعة اطلاعه، وحسن استنباطه مما يقرأ .. قد بلغ درجه في العلم، جعلتني أوصي به المجامع العلمية خيرا، والله يوفقه وينفع به"
وكتب الشيخ القرنشاوي في إجازته:" درس معي بعض المراجع الأصلية لهذه المادة- أصول الفقه- وكان حريصا على الفهم والتحليل، وبعد مضي هذه المدة- أربع سنوات- وجدته قد نضج في هذه المادة؛ ملكه وتحصيلا، وقدرة على استخلاص المعلومات من مراجعها الأصلية وصناعتها بأسلوب علمي؛ مما جعلني أثق بقدرته العلمية، ورغبة مني في الانتفاع بعلمه قد أجزته في تدريسها، ونسأل الله تعالى أن يوفقه وينفع بعلمه".
ومن شيوخه في كلية اللغة العربية: الأستاذ الدكتور إبراهيم علي أبو الخشب، ويوسف الضبع، وأحمد حسن كحيل.
وبعد؛ فالذي ذكرناه من السادة العلماء الأفاضل، هم بعض من درس عليهم أستاذنا الجليل، وإلا فذكرهم على التفصيل أمر يطول، لكنني على أكمل اليقين وأتم الثقة أنه كان محظوظا بتلك الكوكبة النادرة العالية من أجلة العلماء، وكانوا هم أيضا محظوظين بذلك الطالب الوفي النابه.
1 / 8
أما عن جهوده العلمية والدعوية: فقد كان العلم له رسالة وقضية، وما أصعبها من رسالة وما أشقها من قضية، في وقت سادت فيه عملة الزيف، وكثر فيه الأدعياء، ولم يفرق الناس- بل كثير ممن يطلبون العلم- بين عالم ومدع.
ونستطيع أن نجمل هذه الجهود في السطور التالية:- التدريس بكلية أصول الدين بالقاهرة لعلم التفسير وعلوم القرآن الكريم.
- التدريس بكلية الآداب جامعة الإسكندرية.
- التدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
- التدريس بالمعهد العالي للدراسات الصوفية التابع للعشيرة المحمدية.
- العمل أستاذا ورئيسا لقسم أصول الدين بكلية الشريعة والقانون بسلطنة عمان الفترة (١٩٩٧ - ٢٠٠٣ م).
- هذا إلى جانب المشاركة بالمؤتمرات العلمية، والندوات العامة، والبرامج التلفزيونية، والمقالات الهادفة بالجرائد والمجلات السيارة.
- مشاركته الفعالة بمشروع" إحياء الأزهر القديم" بالرواق العباسي بالجامع الأزهر الشريف.
- عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
- المشاركة بموسوعة الفرق الإسلامية- إشراف الدكتور حسن الشافعي- بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
1 / 9
وبعد فهذه السطور المتواضعة تحاول أن تقرب شخصية هذا العالم من قلوب أحبابه وتلاميذه، وأحسب أن لها شرف المحاولة فقط، وإلا فقد سبق علمه كلماتي، وسبقت سجاياه ترجمتي، وسبقت محبته في قلوب عارفيه سطوري، فما هي إلا كلمات تعبر عن محبتي ووفائي له، والوفاء أمر غال عزيز.
والله سبحانه الموفق والمستعان
وكتب المفتقر إلى عفو ربه أشرف سعد محمود
1 / 10
مقدمة
الحمد لله .. أقولها بملء فمي وقلبي. لقد ألهمني الله ﷾ الحق، وبصرني منهاج الدلالة عليه، وحملني شرف الدفاع عن دينه وشريعته وقرآنه، وما كنت أهلا لشيء من ذلك كله ... لولا سابغ لطفه، وعظيم امتنانه ... فمنه وله وإليه الفضل كله.
والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على سيدنا محمد ﷺ.
وبعد ..
فإن الناظر في تراث علمائنا الأعلام، خصوصا أهل التفسير والقرآن، يتبين أنهم- ﵏ لم يقفوا عند كلام يحللونه ويستخرجون معانيه وأحكامه، كما وقفوا عند القرآن الكريم: يدرسونه على جميع وجوهه من نحو وبلاغة وفقه .. يخبرون ظاهره وباطنه، ويسبرون غوره، ويتغلغلون في أعماقه. وذلك كله؛ لئلا يفوتهم معنى أو حكم من أحكام الله في قرآنه دون أن يستخرجوه.
وكذلك .. لئلا يستخرجوا من كلام الله غير مراده سبحانه؛ إذ في الأول نقص يلحق أحكام الله، وفي الثاني دخول ما ليس من أحكام الله في مراده.
ومن ثم ... أحكم علماء القرآن وسائلهم اللغوية والفقهية .. دققوا وحققوا ما في وسعهم من أصول الاستنباط، وسبل الاجتهاد، في تفسير القرآن الكريم، ومن ثم نشأ ما يسمى ب" علوم القرآن" و" أصول التفسير"، التي هي بمثابة أصول الفقه من الفقه. فكما أن الفقيه يستنبط من النص مستعينا بأصول الفقه، فكذلك المفسّر يستنبط من النص مستعينا بأصول التفسير كي يقطف المعنى من اللفظ.
1 / 11
وفي هذا البحث حاولت أن أكشف شيئا من علوم القرآن وأصول التفسير عند الإمام الشاطبي في كتابه" الموافقات"، وحاولت كذلك- وأنا طالب علم- أن ألفت نظر زملائي من طلاب العلم كيف كان علماؤنا الأوائل يعملون عقولهم، وكيف كانوا يفكرون وهم يستنبطون ويستخرجون مراد الله من قرآنه.
يقول أستاذنا الجليل الدكتور محمد محمد أبو موسى:" ليس في باب العلم أنفع ولا أفضل من أن نتعلم كيف استنبط العلماء العلم؛ لأن الاستنباط هو الذي يهديك إلى استخراج معرفة جديدة وفكر جديد، وهو الذي هدى كل جيل إلى تجديد علومه وبسط معارفه" (١).
وبعد .. فإن الغاية التي يسعى إليها هذا الكتاب إنما هي التنبيه إلى قيمة قواعد علوم القرآن وأصول التفسير في دراسة كتاب الله، ثم التمسك بهذا النهج، والدعوة إليه على أنه هو- لا غيره- النهج الأقوم في فهم القرآن؛ لأنه الميزان الذي يميز الرشد من الغي، وهو الذي ينير السبيل ويوضح صدق المتمسكين بالقرآن والسنة، كما أنه هو الذي يكشف روغان الكاذبين والمخادعين والمضللين ممن يرفعون راية" القراءة المعاصرة"، تلك القراءة التي تحرف القرآن عن مواضعه- أو من بعد مواضعه- متخذين من الآراء الشاذة والضالة قديما وحديثا هاديا لهم.
ثم رأينا من هؤلاء من يحاول أن يطبق المناهج الأعجمية- من" الألسنية" وغيرها- في نقد النصوص الأدبية على القرآن وعلومه .. فرأينا من ينادي
_________
(١) المدخل إلى كتابي عبد القاهر، مكتبة وهبة، ط ١/ ١٩٩٨ م، ص ٥.
1 / 12
بدراسة القرآن دراسة أدبية فقط، وأن هذا الدرس الأدبي لا بدّ وأن يقوم أولا على نزع الإيمان بقدسية هذا النص.
إن إسقاطات هذه" القراءة المعاصرة" تتغيّا إسقاط الفرق بين كلام الله الذي يتعالى على الزمان والمكان، وبين كلام البشر الذي لا يستطيع الفكاك من دائرتي الزمان والمكان. وهذا ينتهي بهم- لو عقلوا وأنصفوا- إلى إلغاء الفرق بين الخالق والمخلوق. والمحصّلة عند هؤلاء تتجلى في أمور جد خطيرة:
١ - إسقاط قدسية النص القرآني، وذلك عن طريق قطعه عن مصدره.
٢ - إسقاط إلزامية القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين، وذلك من خلال فتح باب التأويل على مصراعيه من غير ضوابطه العلمية المقررة.
٣ - القطيعة المعرفية مع التراث وذلك عن طريق رفضه كله (" الحداثة" المبتورة عن الجذور).
إن العاصم من هذا الزلل أن نعود إلى أصول اللغة العربية والقواعد الأصولية، فنتخذ منهما أداة نتوسل بها إلى فهم سديد لكتاب الله تعالى، وإلى استنباط صحيح منه. فاللغة العربية هي مفتاح القرآن، وقد أصاب دهاقنة الاستعمار المقتل فينا حين وجهوا سهامهم نحوها منذ قديم.
إن تفسير القرآن الكريم دون التقيد بأصول لغة العرب كذب وتقوّل على الله، وهو كذلك خطيئة منهجية لا تغتفر .. لا في منطق الشريعة ولا في شرعة العلم. وكذلك تفسيره من غير معرفة الدلالات الشرعية .. تحريف لمراد الله تعالى في بيان أحكامه.
1 / 13
ومن ثم بنيت بحوث هذا الكتاب على أصلين:
أولهما: ما يعوّل عليه من اللغة في علوم القرآن.
وثانيهما: ما يعوّل عليه من الشرع في علوم القرآن.
ونهجي في هذا الكتاب أن أبدأ بذكر ما قاله الشاطبي ثم أوضحه إن احتاج الأمر إلى توضيح، وأعقب عليه إن اقتضى الأمر تعقيبا، ثم أقارن أحيانا بين ما يقوله- ﵀ وبين ما يقوله غيره من علماء القرآن والأصول، فيظهر في نهاية المطاف قيمة ما يقوله الإمام الشاطبي عن القرآن وعلومه في كتابه" الموافقات".
وحسبي أنني ألج هذا الباب وأسلك هذا الطريق دون ريادة سابقة فيما أعلم أتهدّى بها في موضوع دقيق كموضوع هذا الكتاب، ولعلي بهذا أستثير الدافع عند آخرين ليسلكوا ما عساي أكون قد بدأت به.
والمحصّلة الأخيرة التي خرجت بها من قراءة هذا الكتاب هي أن الشاطبي كان يتعبد في محراب" كيف تكشف الغمّة عن هذه الأمة". ولذلك حاول أن يرجع بفهم القرآن الكريم وتفسيره إلى ما كان عليه الأوائل من بيان هدى الله في قرآنه، واقتطاف أحكامه، وبيان أن هذا القرآن هو معجزة الإسلام وأن كل مفسّر مهما حاول فإنما يأخذ نقرة بمنقار طائر في بحر محيط. واعتقاد مفسري القرآن كان ولا يزال، وسوف يستمر، أن ما أدركوه من معناه هو شيء ظني، وأن ما أدركوه من إعجازه هو شيء نسبي، إذا قيس بما عليه حقيقة أمر القرآن الذي لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه.
...
1 / 14
وختاما ...
إن في تاريخ هذه الأمة رجالا صنعهم الله على عينه فكانوا حماة لهذا الدين، ونحن بحاجة إلى أمثالهم يرابطون على الثغور في هذا الزمان الذي يحاول أعداء الإسلام كل يوم فتح ثغرة في جدران حماه.
وأحسب أن الشاطبي كان علما من أعلام هؤلاء ... فجزاه الله خير الجزاء على ما أسدى في خدمة كتاب الله خاصة وشريعة الله عامة، كما أسأله سبحانه أن يجزي شيوخنا الأجلاء الذين جلسنا بين أيديهم وتعلمنا منهم خير الجزاء؛ إذ هذا البحث ما هو إلا ثمرة من ثمار غرسهم، ونستطيع أن نقول لهم بملء أفواهنا:
هذه بضاعتكم ردت إليكم.
والصلاة والسلام على نبينا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط الله المستقيم.
د. محمد سالم أبو عاصي
1 / 15
ترجمة أبي إسحاق الشاطبي
تمهيد:
عرف بعضهم أصول الفقه بأنه العلم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي (١).
وعملية استنباط أحكام الشريعة من أدلتها لها ركنان:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة.
وقد خصّ الركن الأول بالدراسة المتعمقة التي لملمت له الشعث، وأدرج فيه ما تمس إليه حاجة الاستنباط، وأضيف إليه ما يخدمه وما يقوم عليه من بحوث أخرى فيما
يتعلق بتصور الأحكام.
وأما الركن الثاني فقد أغفل إغفالا ... " وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما، هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هيأ الله- ﷾ أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى، في هذا الفراغ المترامي الأطراف، في نواحي هذا العلم الجليل" (٢).
فمن هو هذا العلم الفخم الذي صنع هذا الصنيع، وأسدى هذه المفخرة؟
_________
(١) محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ص ٨، ط. دار التعارف، لبنان.
(٢) عبد الله دراز، من مقدمة الموافقات، ١/ ٥٠.
1 / 16
من هو أبو إسحاق الشاطبي هذا؟
١ - أولا: اسمه ونسبه:
هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، وكنيته أبو إسحاق، ولقب شهرته الشاطبي. فأما اللخمي؛ فهو نسب عائلته، أي قبيلته، ولا يعلم في نسبه القريب مبرّز في العلم، غير أن حسب أبي إسحاق أن يكون علمه نسبه، متمثلا بقول أبي الطيب:
لا بقومي شرفت بل شرفوا ... (وبعلمي) فخرت لا بجدودي (١)
على أنه لا ضعة على الرجل في نسبه. فهو لخميّ عربي، وكان للخميين ملك بالحيرة، كان آخرهم المنذر بن النعمان بن المنذر، ثم كان لبقاياهم ملك بإشبيلية من الأندلس وهي دولة ابن عباد.
وأما الشاطبي؛ فهي نسبة إلى" شاطبة" الواقعة شرق الأندلس بمقاطعة بلنسية، وقد عرفت بصنع الورق، وكانت من أعظم حصون المسلمين بالأندلس، ونسبة أبي إسحاق إلى شاطبة، من جهة كونها موطن آبائه، الذين تركوها إلى غرناطة حين سقوطها بيد ملك أراقون، الذي حاربها تسع سنين من غزوه لها عام ١٢٣٩ م، ثم أخرج من شاطبة أهلها من المسلمين.
٢ - مكان وزمان ولادته:
أ- زمان ولادته: لا يوجد تاريخ مجزوم به يحدّد ولادة أبي إسحاق، غير أن بعضهم اجتهد في استنباط تاريخ مقارب، فجعلها قبل عام ٧٢٠ هـ، وسنده في
_________
(١) أصل البيت: وبنفسي فخرت لا بجدودي، وعدلنا به للمناسبة.
1 / 17
ذلك أن وفاة أسبق شيوخ الشاطبي وهو أحمد بن الزيات كانت ٧٢٨ هـ، ولا بدّ أن يكون الشاطبي حينها يافعا.
ولكن باحثا آخر نفى كون ابن الزيات شيخا للشاطبي. ورجح أن مولد الشاطبي كان قريبا من سنة ٧٣٠ هـ واستند في ذلك إلى براهين هي:
- أن أبا إسحاق كان صديقا ندّا لابن زمرك الوزير المولود عام ٧٣٣ هـ.
- أن الشاطبي ذكر أنه كان سنة ٧٥٦ هـ تلميذا صغيرا لابن الفخار البيري.
ولعل هذا التوجيه هو الأدق للبرهان الثاني خصوصا إذا علم أن الشاطبي كان يدرس على ابن الفخار ألفية ابن مالك وكتاب سيبويه .. فانظره، والله أعلم بصوابه.
ب- مكان ولادته: لم يذكر على وجه التحديد كزمانها، لكن إذا علمنا أولا أن أهل الشاطبي تركوا شاطبة إلى غرناطة عام ١٢٤٧ م- في الحادثة التي أشرنا إليها- على أبعد التقديرات؛ فإن ذلك يكون قبل ولادة الشاطبي بنيف وسبعين سنة. ويعلم ثانيا أن الشاطبي نشأ وترعرع بغرناطة، فيترجح أن ميلاده- وهو إلى نشأته أقرب- إنما كان في غرناطة.
٣ - نشأته:
نشأ الشاطبي بغرناطة التي أمضى بها سائر عمره، وكان قد اتجه منذ صباه الباكر إلى العلم كما ترى من ملازمته أعلاما كبارا في زمنه كابن الفخار البيري الذي كان يتلقى عنه وهو في العشرينيات تقريبا، وكأبي سعيد بن لب في ذات الفترة، وغيرهم من الأعلام.
وما تمكنه عند جمعهم إلا لطول الملازمة، وبيان ذكائه، وظهور نبوغه، ألا ترى كيف كان ابن الفخار يعجب من ذكائه وإثارته مسائل في اللغة، لا يتنبه
1 / 18
إليها من هو في مثل سنه؟! فما بالك بمن عجب منه ابن الفخار وهو الإمام في علوم العربية الذي لا مطمح بغيره في اللحاق به؟!
وقد كان الشاطبي متميزا بقوة العارضة والنبوغ، وقد خرجت خوارجه منذ أول توجهه كما يقول عن نفسه:" لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت من أنواعه نوعا دون آخر".
٤ - أخلاقه:
يوصف الشاطبي في مجمل سجاياه أنه كان يغلب عليه الزهد والورع والتمسك بالكتاب والسنة، والنفور من البدع وأهلها، كما كان متواضعا يكره التعالم والتعنت
والاعتراض والجدل.
٥ - وفاته:
من المتفق عليه أن وفاة الإمام أبي إسحاق كانت سنة ٧٩٠ هـ الموافقة ١٣٨٨ م. استنادا على ما قاله أحد تلامذته الذي نظم كتاب الموافقات إذ قال:
حتى غدت حياته منقضية ... في عام تسعين وسبعمائة
ودقق بعض الباحثين تاريخ وفاته بأنه يوم الثلاثاء، الثامن من شعبان، سنة ٧٩٠ هـ، الموافقة ١٣٨٨ م.
فإن كان الاختيار أن ولادته كانت في الثلاثينيات من القرن الثامن كما مر، فيكون قد عاش نحوا من ستين سنة (١).
_________
(١) حماد العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص ١٣، ١٤. وانظر: مجلة الموافقات، العدد الأول ص: ٩٥.
1 / 19
٦ - عصره وبيئته:
عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي في غرناطة من أرض الأندلس، ولم يذكر أنه فارقها حتى للحج، بله طلب العلم.
وكان القرن الذي عاش فيه هو الثامن الهجري بين ثلاثينياته وتسعينياته.
فما بيئة غرناطة ووقتذاك؟ وما أحوالها المعاصرة لحياة الإمام أبي إسحاق؟
بيئة إقامة الشاطبي غرناطة، التي كانت في بداية عهد المسلمين في الأندلس واقعة ضمن إقليم البيرة التي صرف إليها عبد الرحمن الداخل الأموي جل اهتمامه، ثم حين سقطت الدولة الأموية في الأندلس وأحرقت البيرة انعكس الأمر وخرج أهلها منها وجعلوا قبلة فرارهم وهجرتهم إلى غرناطة، وأصبحت هي عاصمة الإقليم، بينما غدت البيرة تابعة لها، واتخذها المرابطون قاعدة لهم بعد أن افتكّوها من بربر صنهاجة- كما يذكر- ثم دالت الدولة فأخذها منهم الموحّدون، ثم استولى عليها ابن هود أحد ملوك الطوائف، إلى أن نزعها منه مؤسس الدولة النصرية دولة بني الأحمر، عام ٦٣٥ هـ، وظل بنو الأحمر يحكمون غرناطة قرابة قرنين ونصف من الزمان، وفي أوج دولتهم هذه عاش الإمام أبو إسحاق الشاطبي، وعاصر من ملوكها مزيجا .. منهم القوي الحكيم، ومنهم الضعيف غير المجرّب فتستقر الأحوال حينا فيعمل الناس وينتجون، وتضطرب أحيانا متجهة إلى الحركة، أو تضعف. وقد يخرج منها البعض مهاجرا.
كانت ولادة الشاطبي في هذا العهد، وعلى الذي اخترناه من تاريخ ولادته، يكون ذلك مترددا بين عهد اثنين من ملوك بني الأحمر هما محمد بن إسماعيل
1 / 20
(تولى ٧٢٥ هـ، وقتل ٧٣٣ هـ)، وأخوه أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل (تولى ٧٣٣ هـ، وقتل ٧٥٥ هـ)، وكان أبو الحجاج مهتمّا بالعلم والأدب، وقد استوزر ذا الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب، وعلى عهده كان في غرناطة علماء كبار منهم ابن الفخار البيري شيخ الشاطبي، ففي عهد أبي الحجاج يكون الشاطبي يشق طريق تكوينه العلمي على يد أعلام قرطبة.
ثم ولي بعد أبي الحجاج ولده الغني بالله محمد بن يوسف بن إسماعيل (ولي ٧٥٥ هـ، ومات ٧٩٣ هـ)، أي أن حكمه استمر إلى ما بعد وفاة الشاطبي، وكانت فترة طويلة تميزت بأمن واستقرار نوعا ما، تخللها ذلك الاضطراب الذي خرج فيه الغني بالله إلى المغرب، وتولى مكانه أخوه إسماعيل، ثم قتله زوج أخته" البرميخو" وتولى مكانه، وكان" البرميخو" فاسدا.
ولما كانت الرعايا على دين الملوك فقد انتقل هذا الفساد إلى الحياة اليومية، لا سيما انتشار الحشيشة واستحلالها كما كان يصنع البرميخو، وفي هذه السنوات الثلاث لجأ معظم الفقهاء إلى بلاط بني مرين بفاس. كما ساعد في نقل الفساد إلى الحياة اليومية كون غرناطة قبلة كل شارد فأصبحت ملتقى للانحرافات الدينية والخلقية في سائر الحياة العامة- كما يعبر البعض- وهكذا ما كان يجري في سراديب السياسة بين الطبقات الحاكمة من كلب شديد قائم على السلطة.
وحسبك أن تعلم من ذلك أن ابني إسماعيل اللذين ذكرناهما وأباهما أبا اليد إسماعيل، كل هؤلاء قتل في سبيل السيطرة، وما حدث للغني بالله كان وراءه أخوه إسماعيل وهلك إسماعيل على يد البرميخو. وما دون الأمراء كان كذلك حال الوزراء كالفتنة التي وقعت للسان الدين ابن الخطيب، وضاعفها أن كان وراءها تلميذه ابن زمرك الذي أرضعه ابن الخطيب الأدب وانتهت بقتل ابن الخطيب عام ٧٧٦ هـ،
1 / 21
ودارت الأيام على ابن زمرك فقتل هو الآخر عام ٧٩٧ هـ، وكان ابن زمرك صديقا ندّا للشاطبي، كما سبق ذكره.
هكذا كانت بيئة غرناطة وعصر الشاطبي، فعلى ما فيها من ازدهار في العلوم والآداب بحيث كان ذلك الوقت عصرا لكبار الفقهاء كابن عرفة، وابن مرزوق الجد، والعقباني، والأدباء كلسان الدين ابن الخطيب، وابن خلدون ...
وغيرهم ممن عرفت .. على هذا الازدهار كان ما رأيت من سريان الداء إلى جسد الحياة اليومية، وما سمعت من تهتك أديم نظام السلطة والكلب على الحكم.
وعلى كل ذلك لم يكن هناك صدى فيما كتبه الشاطبي لهذه الأحوال، وليس له تجاهه موقف فصيح، غير أنه يمكن رد ذلك إلى أنه كان يكتفي بموقفه الفكري المميز الذي يردّ فيه كل أسباب الفساد الخلقي والاضطراب الاجتماعي إلى البعد عن النهج السويّ والسنة السمحاء، وإيثار البدعة وارتضائها، وهذا ميدانه الذي بقي فيه سيفه مصلتا وتحمل في سبيل غايته كل عنت ومشقة.
ولعل سائلا يسأل لم لم يترك الشاطبي غرناطة والأندلس إلى غيرها؟
ونقول: لو فعل؛ لكان كالمستجير من الرمضاء بالنار ففي تلك المرحلة العصيبة لم تكن أرض للمسلمين إلا وهي تنعي صحة الإسلام إلى أهله الغيورين، فبنو مرين في فاس تتراجع دولتهم بعد وفاة أبي الحسن المريني ٧٥٢ هـ، ومصر فيها الأحوال مضطربة في دولة المماليك البحرية ثم الجركسية وهم يواجهون خطر التتار من جهة
1 / 22
والصليبيين من جهة. فإن فر من نار المغرب؛ وقع في جحيم المشرق، وقد فعل ذلك ابن خلدون فما ظهر إلا بالعناء والعنت (١).
شيوخ الشاطبي (٢):
١ - أبو عبد الله محمد ابن الفخار البيري: وقد مر ذكره، وكان الشاطبي شديد القرب منه، وقد درس عليه كتاب سيبويه وألفية ابن مالك، وكان شيخا له في القراءات.
توفي ابن الفخار عام ٧٥٦ هـ- أو بعدها بقليل، وقد درس عليه الشاطبي في شبابه وكان به معجبا.
٢ - أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الغرناطي (٧١٠ - ٧٨٢): كان فقيه غرناطة وخطيبا بجامعها الكبير، ومدرسا بمدرستها النصرية. وكان ثالث ثلاثة ذاع صيتهم بالمغرب، والآخران هما المقري وابن مرزوق وكلاهما من شيوخ الشاطبي.
كان الشاطبي أثيرا قريبا من ابن لب، وقد درس عليه الفقه والفروع وشيئا من اللغة، ولكن نفرة قامت بينهما حين استقل الشاطبي بالفتوى، فبدا له
_________
(١) في حال عصر الشاطبي .. انظر:
- أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الشاطبي، خلاصة ترجمة الشاطبي، ص ٨٨.
- حماد العبيدي، الشاطبي ومقاصد الشريعة.
- مجلة الموافقات، ملف العدد الأول.
(٢) انظر: الشاطبي ومقاصد الشريعة، لحمادي العبيدي، ومقاصد الشريعة عند الشاطبي، للريسوني.
1 / 23
تساهل ابن لب، في حين كان الشاطبي شديدا في فتاواه توافقا مع نهجه في معاكسة الأهواء، ودفع البدع، وحفظ دوحة الدين.
٣ - أبو علي منصور بن عبد الله بن علي الزواوي التلمساني (٧١٠ - ٧٦٥) وقد قدم غرناطة عام ٧٥٣ ولبث بها ١٣ سنة، وكان جاءها ليتلقى عن ابن الفخار البيري فانتصب للتدريس، ودرس عليه صاحب ترجمتنا مختصر ابن الحاجب، وكان الزواوي حبيبا إلى نفس الشاطبي لتجانس روحيهما، فقد كان أبو علي متمسكا بالسنة شديد التمسك، وكان له في منهج الشاطبي أثر بيّن يدلنا عليه ما يذكره الشاطبي أنه كان كثيرا ما يذكر له قول بعض العقلاء:" لا يسمى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق حتى تتوفر فيه أربعة شروط:
أحدها: أن يكون قد أحاط علما بأصول ذلك العلم على الكمال.
والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم.
والثالث: أن يكون عارفا بما يلزم عنه.
والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم".
٤ - أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر المقري الكبير، جد المقري الصغير صاحب" نفح الطّيب". ولد بتلمسان، وسافر إلى المشرق وعاد إلى فاس، ثم وفد إلى غرناطة سنة ٧٥٧ هـ، وانتصب بها للتدريس وقد سبقته شهرته إليها، وكان ذا نزعة في التصوف أثرت في الشاطبي، واقترب منه الشاطبي حين دراسته عليه الفقه والتصوف والحديث، وخصه المقري بسندين مسلسلين أحدهما سند مصافحة والآخر سند تلقين.
1 / 24