كنا قد تربينا في شارع واحد وبيتين متجاورين. وكم لعبنا لعبة العروس والعريس وتقاذفنا الحصا والرمل ونتف القطن وحفنات القمح، قبل أن ينبض قلبانا بالوجيب الغامض الوليد، وتكثر لقاءاتنا ومناجياتنا من النوافذ، وكان أبوها النحيل الصامت على الدوام عاملا بسيطا عند صاحب مخزن الفراشة القريب من محطة السكة الحديد، يحيي أبي عندما يراه خارجا من باب البيت أو من باب الجامع القريب، ويقبل يده في خشوع ويسأله البركة والدعاء، وأمها كانت تزورنا خلسة وتشكو لأمي من عناء الحياة مع رجل خائب مذهول كما تقول، وتخرج من عندنا وهي تحمل صرة منتفخة تخفيها تحت ملاءتها، مع الأمل في مئونة الزكاة التي تصلها خفية عن الأعين حين يحل العيد الكبير، وكنت أجري إليها وأحملها السلام إلى زهرة التي أشم عطرها في أمها، فتقف أمامي ساكنة رافعة يديها إلى السماء كأنها تؤدي الصلاة: ربنا يا ابني يكتب لها ابن الحلال.
وأشير بأصبعي إلى السماء وأنا أقول: سيحصل يا أم زهرة، سيحصل، انظري بالليل إلى السماء تريني أنا وزهرة كالكوكبات! وتضحك المرأة المتعبة القسمات وهي تحكم ملاءتها السوداء حول وجهها وجسدها، وتغلق الباب وراءها في هدوء: ربنا يا ابني ينور لكم طريقكم على الأرض قبل السما!
ونور ربنا طريقنا على الأرض وملأه بالزهور والعطور والوعود، كنت قد كبرت واخشوشن صوتي ونبت زغب شعرات دقيقة في ذقني وشاربي، كما كبرت زهرة وبدأ وجهها يحمر وتبرز في صدرها تفاحتان صغيرتان، وكان رأسي قد امتلأ بحكايات العلماء وعجائب الأفلاك، وأشعار التناغم الأزلي التي ظللت أسمعها منك ونحن على السطوح في الليالي الصافية، نطل من مرصد حلوان الصغير، ونلتقي أنا وزهرة بعيدا عن الأعين المتطفلة عند الطاحونة المهجورة على أطراف المزارع، أو في الساحة الموحشة القريبة من المقابر، وأحيانا نجازف بالتجول في المقابر ونزرع ممراتها الضيقة الغنية بشجر الصبار، كشبحين هائمين في بستان الأموات، لا، لا، كنا في الواقع نتجول في بستان السماء، ولا نشعر بأقدامنا تسير على الأرض، ولا بالأرض التي نقف عليها أو نسير. وتنطلق الأفكار التي اختزنتها كالحمام الزاجل من برج الرأس الحالمة، فترفرف فوقنا قبل أن تحلق وتختفي في السماء، وتموت على نفسها من الضحك وهي تسمع مني أسماء العلماء، وتفتش عبثا عن مدارات الأفلاك وقوانين الجاذبية والفجوات والثقوب السوداء والأشعة القادمة إلينا من بلايين السنين، فأحذرها من غضب الأموات، وأنذرها بأنني سأسبح في السماء وأصبح واحدا من أولئك العلماء اللامعين، وتضحك في طيش: أنت وحدك؟ فأقول وأنا أزم شفتي: هل ترين هذه الزهرة فينوس؟ سنكون مثلها زهرتين مشتعلتين في السماء! وتميل في صمت على زهرتين صفراوين نبتتا على فرع شجرة شوكي وهي تقول: أنا أفضل أن نكون هنا أولا على الأرض، متجاورين ولو على فرع شجيرة صبار ! وأضع يدي على كتفها وأضمها إلى صدري، وأطبع على فمها أول زهرة في بستاننا الذي ازدهرت فيه بعد ذلك عشرات الزهور.
ومرت الأيام والشهور والسنوات فندرت لقاءاتنا حتى انعدمت، وأصبح عزاؤنا الوحيد بالتناجي من النوافذ المتجاورة أمرا مستحيلا، بعد أن أغلق أبوها الصامت الشرس كل الشبابيك بالخشب والمسامير، وحرم عليها فتح الأبواب والإطلال على الشارع، وذهبت إلى المدرسة في عاصمة الإقليم لأعيش مع شقيقي الأكبر حامد، وبقي شعاع الأمل الوحيد في الأوراق الصغيرة التي كانت توصلها شقيقتي إليها أو إلي. كانت تذكرني في كل ورقة بالزهرتين من شجيرة الصبار، فأرد عليها مذكرا بالزهرتين المشتعلتين في السماء، وقلت الرسائل بعد زواج أختي وانتقالها إلى بيتها الجديد، واصطدمت محاولاتي رؤيتها - ولو مرة واحدة للحظة خاطفة، وعند حضوري في الإجازة الصيفية - بأبواب المستحيل وجدرانه وسدوده، على الرغم من التصاق الحائط بالحائط، واستماع القلب إلى دقات ساعة القلب التي تنفذ من الجدران، واستقر بي المقام في القاهرة عند أحد أخوالي بعد التحاقي بكلية العلوم، وغرقت في بحور الفلك والرياضيات، وسبحت على أجنحة الطموح لمنافسة كبلر وجاليليو ومشرفة وآينشتين نفسه الذي عارضت بعد ذلك نظريته عن تمدد الكون بنظرية مضادة عن انكماشه وانطفائه، برغم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي افترضت معادلات أخرى تخالفه.
عندما رجعت في ثاني أو ثالث إجازة صيفية وأنا على أبواب التخرج فاجأتني شقيقتي التي حضرت للسلام علي بقولها: البقية في حياتك، فهمت أنها تقصد زوجة أبي التي توفيت فجأة قبل شهور وتركت أبي مستندا على عكازين أو قانعا بالجلوس وأداء الصلاة على الكرسي المتحرك. قلت لها وأنا أكسو وجهي بعلامات الرضا والصبر: هذه حال الدنيا، الحمد لله على كل ما يأمر به الله. قالت: تعال. وانفردت بي في الحجرة الصغيرة التي كانت تنزوي فيها أمي، وقالت وهي تخرج ورقة من جيب تنورتها الطويلة: فكرت كثيرا أن أبلغك ولكن حسن نصحني بأن أتركك لعلومك. قلت وأنا أتوجس شيئا مباغتا: لقد اكتفيت بالبرقية كما أخبرني أخونا حامد. قالت: أف من الفلك وسنينه! هذه الورقة من زهرة، تركتها لك قبل ... سألت ملهوفا: قبل ماذا؟ أرجوك تكلمي. قالت وهي تخفض رأسها إلى الأرض لكي تتحاشى النظر في وجهي: تركت لك طول العمر، ادع لها بالرحمة.
اشتعلت كل زهور البساتين في رأسي: ماذا تقولين؟ ماذا حدث وكيف ومتى؟
ولماذا لم ... قاطعتني وهي تربت بيدها الصغيرة الدافئة على وجهي وصدري: قلت لك ادع لها بالرحمة، واخفض صوتك حتى لا تزعج أباك، لقد احترقت زهرة، صبت الغاز على رأسها وصدرها فاشتعلت فيها النار، وخرجت تجري إلى الشارع قبل أن يهرع الناس إليها، ويلفوها بالبطاطين ويحملوها إلى بيتها، ثلاثة أيام وليال ثم خرج السر الإلهي، قلت لك ادع لها بالرحمة. انتابتني حالة من الجنون أو التحجر، شعرت بأنني بركان تغلي صخوره الباطنة بسيول الحمم، ولكن وقت انفجاره في علم الغيب. وخرجت صامتا إلى القاعة التي استسلم فيها أبي للنوم فوق عربته المتحركة، وجلست على الكنبة في مواجهته وأنا أتمتم لنفسي: أنا المشلول لا أبي، وسأبقى مشلولا مثله ما بقيت في هذا البلد، هذا البلد الذي لن يتغير حتى يمنع احتراق الزهور. •••
لا تسألني ماذا فعلت بعد ذلك، فأنت تعرف كل ما يمكنني قوله، صممت في تلك الليلة على الهجرة، وتحددت أمام عيني مسيرة حياتي وهدفها، كما تتحدد مدارات الكواكب والنجوم وقوانينها، لا تضحك إذا قلت لك إنني صممت منذ تلك اللحظة، والورقة لا تزال مطوية في يدي، على مواصلة دراستي للفلك وبحثي عن زهرتي المشتعلة في السماء، وفي كل المجرات التي نعرفها والنظم التي يأتينا رنين إشعاعاتها وأطيافها، شيء مخبول اختلط فيه العلم بالتنجيم بالتصوف بالسحر، أعلم هذا تماما، لكنني مضيت فيه وجعلته صراط حياتي المنصوب كما تعلم بين النار والأعراف، يحدوني اعتقاد ربما لا يقل تخليطا وخبالا: أن حياتنا لا تعرف الموت أبدا، قد تتحلل وتفسد وتتحول إلى أشكال أخرى من الطاقة، لكن الموت نفسه كذبة وخرافة، رحت باختصار أعلل نفسي بأن النفس كذلك طاقة، وأنها طاقة خالدة وإن كنا لم نكشف بعد عن أسرارها، ولازمني اليقين منذ ذلك الحين بأن نفوسنا التي نتعهدها بالمعرفة والوعي لا يمكن أيضا أن يجوز عليها الفناء، كما لازمني اليقين الذي لم تخمد شرارته أبدا بأن نفس زهرة خالدة، وأنها قد تكون هناك في مكان ما فوق رأسي، في نفس أحد النجوم التي أحسب حساباتها وأتابع دورات ميلادها وحياتها وموتها، وأكرر بيني وبين نفسي ما تصوره كهنة الإغريق وفلاسفتهم عن أرواحها المقدسة، وما تصورته وآمنت به من وجود زهرة واشتعالها في نقطة بعيدة من الكون، وانتظارها أن ألحق بها وأشتعل بجوارها، كما اشتعلت زهرتا الصبار الضئيلتان في مقبرة البلدة أثناء نزهتنا العجيبة. •••
آه يا معلمي الحبيب! ماذا بقي أن أقوله أو أسكت عنه بعد أن عرفت ما عرفته من زوجتي عن نوبة البكاء والجنون والانتحار التي هاجمتني في الأيام الأخيرة؟ أأكرر عليك أنني نزلت من الحنطور بعد زيارة المدرسة، وجست في شوارع البلدة وحاراتها، حتى وصلت إلى الشارع الضيق الصغير، الذي احترقت زهرة عليه؟ أأقول إنني وجدت الجامع القديم والكنيسة ذات السور الحجري التي تشبه النافورة البيضاء المستديرة، ولم أجد لا بيتنا ولا بيت زهرة؟
ومع ذلك جلست هناك على حجر أجرد وظللت ساعات أحدق في الأرض، وأنتظر كأن زهرة ستخرج إلى الشارع مشتعلة بالنيران، أو تتوهج فوق رأسي في السماء الصافية، التي تسبح فيها الغمامات البيضاء على مهل كأجنحة الحمام.
Bog aan la aqoon