ولا يعرف أحد على وجه اليقين هل كان الشيخ سيد شيخا بحق، أم أن الناس سموه كذلك من كرمهم المعروف!
بل لا يستطيع أحد منا أن يؤكد أو ينفي أنه كان يدعى سيد ولا يدعى محمد أو أحمد أو محمود، لكن الشيء الذي لا نستطيع أن ننكره - نحن العجائز على الأقل - فلا يضمن أحد اليوم أو غدا ما ستكون عليه آراء الشباب جيلا بعد جيل، هو أن الشيخ سيد قد طار.
وإليكم الآن ما سمعته عن هذا الأمر العجيب!
صحا الناس ذات يوم، في تلك العزبة التي حدثتكم عنها، فوجدوه في مكانه الذي لم يغادره أبدا بعد ذلك، كان من عادتهم في كل صباح أن يعبروا جسرا صغيرا من الخشب، يئن تحت كل خطوة كأنه يلفظ أنفاسه، أو يذكر الناس بأنه مات بالفعل، وحرام أن يدوس الإنسان على الأموات، فلاحون يجرون مواشيهم وحميرهم وكلابهم وأولادهم، ويسيرون إلى حقولهم أو حقول غيرهم متوكلين على الحي الذي لا يموت، وتجار صغار يجرون على رزقهم والأرزاق كلها على الله، ونسوة وأطفال وتلاميذ وأفندية ومخلوقات تمشي على اثنتين أو على أربع على حسب البخت والنصيب، ونادرا ما يتوقف الناس عند الجسور أو يخطر لهم أن يقضوا عليها أكثر مما يقتضيه العبور، ومن يدري؟ فقد يطوف بأذهانهم أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن عمرهم - كهذا الجسر - رحلة يقطعونها بين حياة لا يذكرونها وحياة لا يعرفون عنها شيئا، وسواء أكانت هذه الأفكار تدور في رءوسهم أم كانت من آثار الشيخوخة علينا، فقد كانوا يتجمعون بعد الجسر قبل أن يتفرقوا كل في سبيل، هنالك اكتشف واحد منهم وربما أكثر من واحد، أن رجلا ضئيلا قد سكن في شجرة الجميز التي تواجه الجسر، أقول سكن فيها ولا أقول جلس تحتها، فلو أنه كان يجلس تحتها لما كان في منظره ما يسترعي انتباه الصغير ولا الكبير، ولقالوا لأنفسهم واحد من المتعممين يستريح في الظل، أو غريب والغرباء أحباب الله، لكنه كان قد سكن في الشجرة وانتهى الأمر، وهيأ له بيتا في تجويفها الكبير الذي يبدو أنهم لم يفطنوا إلى وجوده من قبل، كان يجلس هناك متربعا على راحته كالمشايخ الذين يتلون القرآن على القبور، برأسه الصغير الذي يلتف في شال أخضر بدا من بعيد كعمامة الأولياء الواصلين، ووجه ضامر مغبر لا يدري أحد أن كانت سمرته الشاحبة - التي زادتها لحية كثة مهملة - من أثر العرق والتراب أو من شقاء الغربة والمرض والسفر في بلاد الله، وجلباب أبيض فضفاض يستره ويجعله يبدو للعين من داخل التجويف المظلم كأنه شمس صغيرة أو مصباح أضيء في عز النهار، كان يجلس هناك كما قلت، على راحته وفي اطمئنان من يشعر أنه في بيته، وقد تقول أن الناس تعجبوا في أول الأمر حين شاهدوه، وقد يكون بعضهم قد قال كلمة من هنا أو من هناك، أو ضحك بصوت مرتفع أو صوت مكتوم، وقد يكون بعضهم قد اقترب منه ووقف يتفرج عليه أو يفرج الناس، لكن يظهر أن جلسته الجامدة المستريحة كالتمثال، واطمئنانه إلى أن كل شيء عنده على ما يرام وأكثر مما يرام، ووضعه أشياء مرتبة أمامه ووراءه في نظام (المركوب الأصفر أمامه، والمصحف مفتوح على حجره، والمسبحة السوداء الطويلة في يده، والبقجة المعروفة وراءه وفيها زاده وفراشه، والكوز والطبق الوحيد إلى جانبه)، كل هذا قد كتم ولا شك صيحة الدهشة أو ضحكة السخرية في صدور الناس ، كان الشيخ سيد قد أصبح حقيقة قائمة أمامهم، لا بل متربعة ومستريحة وهادئة البال.
تستطيعون بالطبع أن تشكوا في كل ما قلت عن الشيخ سيد، ابتداء من اسمه إلى وجهه وسحنته وعمامته وجلبابه وخرجه وكوزه وهلاهيله، بل تستطيعون أن تستبعدوا وجود إنسان في داخل شجرة، وخصوصا إذا عرفتم أنه ظل فيها كما يقولون سنين وسنين، لكنني أحكي لكم ما سمعته ولم تره عيناي، ومن حقكم بالطبع أن تصدقوه أو لا تصدقوه، وما سمعته أن الشيخ سيد قد أصبح مع الزمن، بل من أول يوم رآه الناس، معلما بارزا من معالم العزبة، كما يقولون اليوم في لغة الصحف والمجلات، لقد ألف الناس أن يأتوا إليه كل صباح بعد عبورهم الجسر، وكل مساء في طريقهم إلى بيوتهم، فيتبركوا به وقد يلثمون يديه ويسألونه الدعوات.
ولا شك أن الأمر تطور ببعضهم، وخصوصا النساء الحوامل أو اللائي يتمنين الأطفال، فيطلبون منه الشفاء للمرضى والستر للأصحاء والرحمة لأمواتهم وأموات المسلمين، وقد يسألونه أن يمسح بيديه الطاهرتين على رءوس أطفالهم أو يصنع لهم الحجاب، أو يقرأ عليهم الصمدية أو يعمل لهم العمل، أو يقرأ الطالع ويكشف المستور، وطبيعي أنهم كانوا يذكرونه بعطاياهم - والكريم لا يضام - ويقدمون له في السر ما فيه القسمة: جلباب قديم، أو رغيف بالغموس، أو قليل من اللحم والطبيخ أو شيء من خضار الغيط، أو حتى قطعة دمور تنفع - حين يحين المقدور - للطلعة والتكفين.
لا أطيل عليكم، فقد ظل الشيخ سيد يتمتم بأدعيته - والله وحده يعلم إن كانت من القرآن أو كانت أي كلام - وظل أهل العزبة يتبركون به ويلثمون يديه، وينفحونه من خيراتهم على قدر النصيب، ولا أستطيع أن أحكي عنه شيئا غير مألوف، بل لا أذكر أن أحدا ممن سمعت قصته منهم، قد روى عنه خبرا أو كلمة يمكن أن تؤثر عنه، أو تدخل في باب النوادر والأعاجيب، وكل ما يقولونه: إنه همس ذات صباح أو مساء في أذن واحد منهم - ولا يهم فيما أظن أن نعرف شيئا عن هذا الواحد المجهول - برغبته الأخيرة.
لا أعلم بالضبط ماذا كانت كلماته؟ لكن يبدو أنه قال ما قاله وانتشر كالريح بين الجميع، وعرف الناس أن الشيخ يريد أن يدفن في مكانه، صحيح أن أحدا لم يسأل نفسه هل ذلك سيكون ممكنا أو لا يكون، وصحيح أنهم ربما يكونون قد تعجبوا من رغبته في أن يدفن في بطن شجرة عجوز مصيرها ككل الأشجار أن تقطع أو تكسرها الشيخوخة أو الريح، وربما يكونون قد ابتسموا أو أسفوا على طيبة قلب هذا الرجل أو عبطه؛ إذ يطلب أن يكون قبره شجرة في حين أن أرض الله واسعة، والمحسنون من هذه الناحية كثير.
المهم أنهم وجدوه ذات يوم ميتا، لا يدري أحد كيف خرج النفس الإلهي منه، ولا كيف كانت ميتته، فهي آجال وأسباب، المهم أنهم وجدوه ذات يوم ميتا في جوف الشجرة، كما وجدوه ذات يوم من أشهر وسنين متربعا تحتها، شموا رائحة المسك تفوح من جسده الطاهر فهاجوا وكبروا، ووجدوا فوق رأسه الصغير المسندة إلى جذع الشجرة حمامة تجمجم فارتفع تكبيرهم، وعرفوا أن هذه علامة من السماء، صحيح أن هناك من يقولون إنها لم تكن حمامة ولم تكن فوق رأسه تماما، فربما كانت هدهدا أو يمامة أو عصفورا أو حتى فراشة أو نحلة أو حشرة من حشرات الحقول، ولكنهم رأوا في هذا الكائن الحي الذي لا ندريه إشارة أو بشارة أو أمر تكليف، وربما يكون أحدهم قد هتف بعد أن أخذته الجلالة باسم صاحب المقام، أو يكون أحدهم قد ذكر كلمة المقام صدفة وبغير تدبير، المهم أن الكلمة تنقلت بين الأفواه والآذان، ودارت دورتها المحتومة في الجوامع والبيوت والحقول، حتى صار بناء المقام في تلك البقعة، عند هذه الشجرة، أمرا مقدسا لا يصح أن يجادل أحد فيه، وسرعان ما أعد الكفن، وغسل الميت بماء طاهر تعاون الجميع في إحضاره، ورش قطرات فوق الجسد الضئيل المسجى في ظل الشجرة العجوز، راح كل إنسان يأخذ من البركة نصيب، راح الجميع يشاركون في هذا الحفل المشهود، وأصبح من واجب كل واحد أن يمد يده ولو من بعيد، وإذا لم يستطع أن يغسل الميت أو يساعد الملحد في الغسل فلا أقل من أن يجلب الماء أو يمسك بالوعاء، أو يطلق لسانه بالتكبير أو يمتع عينيه بالفرجة على أضعف الإيمان، وكما يحدث في هذه الحالات وصل الخبر إلى السلطات، بدأ بالعمدة الذي أقبل مسرعا عبر الجسر ووراءه الأعيان والأتباع، لا بد أنه لم يفاجأ بموت الشيخ سيد كما لم يفاجأ من قبل بوجوده، بل لعله قد مر عليه وتبرك به عن إيمان أو تقليد كما كان الجميع يفعلون، ولكن لا بد أنه فوجئ من ناحية أخرى برغبة الأهالي في دفن الرجل عند الشجرة أو في داخلها، ورأى في ذلك شيئا يتحتم الرجوع فيه إلى المسئولين.
هل صرخ ونادى على الناس أن يعقلوا ويرجعوا عما ينوون، أم أظهر الموافقة ودعا بالبركة للموجودين، أم ذهب إلى حد تحبيذ الفكرة والمشاركة برأيه وماله في تجهيز الميت وإعداد الضريح وإحضار البنائين؟! لا أحد يدري كما قلت، لكن الأرجح أنه وجد من واجبه ألا يبت في المسألة بنفسه، وأن يسأل ضابط النقطة وناظر المدرسة وواعظ الجامع، حتى ولو أدى به الأمر إلى الاتصال بالبندر وإبلاغ البيه المدير، ويبدو أنه لم يحتج إلى هذا الإجراء، فسرعان ما جاء رأي الضابط أو حضرة المأمور، لقد رفض حضرة المأمور، بل هتف وصاح: يا ناس، هل نحن في مستشفى المجاذيب؟ كيف يقام قبر على الترعة؟ وهل ضاقت الجبانة بالشيخ عفريت؟!
Bog aan la aqoon