لا! في مدينة أخرى؟
لا؟ في عالم آخر؟
أحقا أنني لن أراه أبدا؟!
مولانا السلطان
طردوني من المسرح، لم يكتفوا بطردي، شتموني ولعنوا وجودي، لم يكتفوا بهذا أيضا، صفعوني على وجهي وعيني وركلوني بالأقدام، قالوا لي: إياك أن تضع رجلك على عتبة المسرح، إياك وإلا قطعنا رأسك ورميناه للكلاب.
أنكروا العيش والملح الذي أكلناه معا عشرين عاما، في عز الليل والناس نيام كسروا عظامي وأغلقوا ورائي الباب، لم يشفع لي الجري والتعب وسهر الليالي والبهدلة في بلاد الله، حتى الجمهور الذي أفنيت عمري في خدمته لم يشعر بحالي، فقد كنا كما قلت في عز الليل، بعد أن انصرف الناس وأسدلت الستار.
هل أحكي لكم الحكاية من أولها؟
كان ذلك منذ عشرين عاما أو يزيد، حين انضممت إلى فرقة «الفنون العالمية»، أقول انضممت وأعترف بما في هذا القول من مبالغة، فلم أكن أعرف شيئا عن التمثيل، ولا جربت الوقوف على المسرح، كنت أيامها أبحث عن عمل، أي عمل، فبعد أن سقطت في الابتدائية أربع مرات، يئس مني أبي وقال: يحرم عليك بيتي حتى تبحث لك عن عمل، جربت ألف صنعة وصنعة، تسكعت في الشوارع، نمت في الحدائق والجوامع، اشتغلت صبي نجار وسمكريا وشيالا في السكة الحديد، وعتالا بالأجرة وملاحظ أنفار، وفشلت فيها جميعا، عشت مع النشالين والبلطجية والقوادين، ولم أفلح في أن أكون نشالا أو بطلجيا أو قوادا، حاولت أن أنتحر ثلاث مرات - محاولات غير جادة بالطبع - بالزرنيخ والأسبرين وصبغة اليود، ولكنهم كانوا ينقذونني في كل مرة، وحين رأيت الزفة تسير في مولد سيدي إبراهيم، معلنة بالطبل والمزمار والصياح عن فرقة الفنون العالمية، قررت أن أكون ممثلا، مشيت معهم في الزفة، زعقت بأعلى صوتي وتشقلبت كالقرود، وملأت وجهي بالدقيق كالبهلوانات فأحبوني، وذهبت معهم إلى مدير الفرقة وقلت له: أريد أن أمثل معكم، ابتسم حين رآني أمامه ثم مسح على وجهه وقال: الإرادة لا تهم، المهم أن تكون ممثلا، لم أفهم فصحت من جديد: أريد أن أمثل معكم! قال بعد أن قطب جبينه: المهم هو الموهبة، ماذا تستطيع أن تمثل؟ قلت: أمثل دور رجل يموت (كنت قد رأيت الموت بعيني أكثر من مرة، وجربت أثر السكاكين في بطني عندما كنت أحاول الانتحار)، قال ضاحكا: طيب فرجنا على شطارتك. فارتميت على الأرض وبدأت أتأوه وأئن، وأمد ذراعي إلى الأمام والخلف، وأرسم على وجهي كل ما أستطيع من علامات الألم، ويظهر أنني كنت ساذجا في التمثيل؛ إذ سمعت المدير يقول: هل تموت أم تتثاءب؟ قم رح لحالك! تشنجت وتأوهت في هذه المرة تأوها يقطع القلوب، وقلت وأنا أبكي: في عرضك يا سعادة المدير، جربوني ولو ليلة واحدة، قال غاضبا: ليس في روايتنا أحد يموت، إلا إذا وافقت على أن تقطع رأسك كل ليلة، صرخت: تقطعوها أو لا تقطعوها، أي دور يا سعادة المدير.
ضحكوا علي وضربوني على قفاي، وحين جلسوا للعشاء عزموا علي واعتبروني واحدا منهم، ورفع المدير صوته وقال: سنعملك حاجبا على باب السلطان، كلما رأيته داخلا المسرح هتفت بأعلى صوتك: مولانا السلطان. فهتفت بصوتي الجهوري: حاضر يا مولانا السلطان! قال في غضب وسط ضحك الممثلين الذين غرغرت عيونهم بالدموع: لا، من غير حاضر، مولانا السلطان فقط، تقولها كل ليلة عشر مرات، وبالنهار تمشي مع زفة الإعلانات وتجذب الجمهور للرواية، ولا مانع عندي أن تهتف بدورك ألف مرة، ليلتها اتفقنا وكان ما كان، عرفت أن الرواية اسمها «هارون الرشيد أو نكبة البرامكة»، رواية من ثلاثة فصول يمكن على حسب الأحوال أن تصبح اثنين أو أربعة أو حتى خمسة، ومنظر واحد لا يتغير، قاعة العرض يمثلها كرسي فخم، هو كل ما تملكه الفرقة، ووراءه منظر بيوت وقباب، المفروض أنها مدينة بغداد، وسجادة دابت ورقعت ألف مرة من كثرة ما مشى عليها الزمان، وسيف قديم لو دقق الجمهور النظر فيه لرأى الصدأ الذي يملؤه، يمسكه العبد مسرور ويخطر به على المسرح، ويقطع رقبة جعفر ويقدمها لهارون الرشيد في آخر منظر على صينية من النحاس، وصندوق من الخشب رسم عليه سبع يمسك بيده سيفا، يمتلئ بعباءات الممثلين وطراطيرهم وبلغهم ولحاهم المستعارة أيضا، ننقله معنا من بلد إلى بلد، ومن مولد إلى مولد يجلس عليه الوزراء والعظماء بين يدي السلطان، وينام عليه السلطان نفسه بعد أن يسدل الستار!
عشرين سنة قضيتها معهم، بالطبع ليس من الواجب أن أتحدث عنهم بضمير الغائب، فقد عرفنا بعضنا وأكلنا العيش والملح مع بعضنا، ودخنا من الصعيد الجواني لوجه بحري على رجل واحدة، في عز الحر وفي عز البرد، في عربات السبنسة وعلى العربات الكارو، في الموالد، وفي الأفراح، في الجوع، وفي العطش، بالليل وبالنهار. علي السبع هو مدير الفرقة وصاحبها ومؤلف الرواية، وموزع التذاكر ومؤدب الجمهور إذا لزم الأمر. كان جزارا في شبابه وهوي التمثيل، من كثرة ما شاف في السيما وسمع في الراديو وحفظ من عنترة وأبو زيد، الفن حكم عليه أن يرمي السكين ويمسك صولجان الخلافة، يترك رقاب العجول والخرفان ويأمر بقطع رقاب البرامكة، ومسرور السياف كان بوابا من النوبة وتاب، زهق من القعدة طول النهار لا شغلة ولا مشغلة، قامت في مخه يمثل ويقف على المسرح، لا يوسف وهبي ولا علي الكسار في زمانه، جاره أبو السباع قال له تقعد في الشمس، ولا تقطع الرقاب؟ قال له: أقطع الرقاب، قال له: طيب شف لك سيف وتعال معي. وجعفر الزبال - واسمه الحقيقي جعفر - حكم عليه الزمان أن ينضم للفرقة، ويقدم رأسه في آخر كل ليلة لمسرور السياف، إنه يصرخ طول الرواية ويسترحم، ويثبت بألف دليل ودليل أنه بريء، ولكنه يقدم رأسه في آخر الليل، لا يقدمها بنفسه بالطبع، بل يقدمها مسرور السياف على صينية النحاس، وهو ينحني أمام كرسي العرش ويقول: رأس الخائن جعفر يا مولانا السلطان!
Bog aan la aqoon