وما زلت أفكر في البحث عن وكيل المحامي حسان، وفي إمكانه رفع دعوى الحجر على أبي، الذي نسينا أنا وأمي وإخوتي الثلاثة، وطردني من بيته كما قال إلى الأبد.
واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة، وكان اليوم من أيام يوليو القائظة، الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبد بالغبار، ورائحة العرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثا عن الظل حين سمع صوتا ينادي: صابر، لم يلتفت في أول الأمر، فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحد اسمه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده، بينما الناس جميعا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم، ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكان يحتمون فيه من الغضب الجهنمي، الذي أعلنته السماء على الأرض، ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر، صابر محمد مرزوق!
ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقف كالمأخوذ وفتح فمه، يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجها نسائيا يفتح له الباب، ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب! ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحة جعلت بعض المارة يتوقفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة، قبل أن يتمكن من الإفاقة من دهشته، فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول كأنه يصدر أمرا عسكريا: «أغلق الباب، ليس عندنا وقت، على الله لا نكون أخذنا مخالفة.»
وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم، تمده الشمس في كل لحظة بمزيد من النار، فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن، ولم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مصدق ومكذب لوجوده في داخل العربة، حتى تذكر أنه لم يسلم عليها، على بريسكا القديمة العزيزة، التي تجلس الآن إلى جانبه، ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعب إلى المسند المريح، والتقط نفسا عميقا ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك، فأحس بيد تفتش عن يده، ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟
ابتسم، رفع عينيه يتملى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه، كان هو نفس الوجه الأبيض المستدير، الذي طالما تفرس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات؛ ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد المندهشتين دائما لسبب وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبد أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة. وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة، واختلس نظرة أخرى إلى الوجه المحبوب؛ ليرى إن كان قد تغير فيه شيء، كان الشعر الفاحم قد صفف بطريقة لم يسترح إليها جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة، التي كانت تتدلى منه ذات يوم، وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش، وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة، وتكسو الوجه كله بمسحة من الجد والتسرع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتة سريعة ، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنس وجوده إلى جوارها، أو لتخفف قليلا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى وهو يقول لنفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوت يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: من كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عاما.
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟!
فأجاب مؤكدا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس، أستطيع أن أعدها باليوم. بل بالساعة إذا أردت. إنها اثنا عشر عاما وشهران و... قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجل من اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوت متحمس يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع، ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب).
Bog aan la aqoon