ودار حولهما نقاش، وكان لكل من الحاضرين طريقة في الفهم، فلم يكن هذا الاختلاف نفسه إلا شاهدا على شاعرية الشاعر.
ولم أكد أفرغ من تذكري لتلك الجلسة البيروتية وما دار فيها، حتى وثبت إلى خاطري - في تسلسل الخواطر، ورأسي مسند إلى ظهر مقعدي في جوف الحوت الطائر بنا فوق المحيط - وثب إلى خاطري كلام جميل قرأته لأبي حيان التوحيدي، حول بيت الشعر الذي يقول:
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فيسأل أبو حيان نفسه: قلب من يا ترى الذي أراده الشاعر؟ أأراد قلبه هو، وأن ذلك القلب يفعل كل ما تأمره به الحبيبة؟ أم أراد قلبها هي، وإنها تملك زمام قلبها، فيأتمر بأمرها، إن شاءت أذنت له بأن ينبض للحبيب، وإن شاءت له أن يمسك أمسك؟ وأبو حيان يختار هذا المعنى الثاني، بل ويستهجن أن يؤخذ بالمعنى الأول؛ لأنه ما دام حبها قد قتل الحبيب كما ورد في الشطر الأول من البيت، فلم يعد هنالك إمكان أن يظل قلبه حيا يفعل ما تأمره الحبيبة بفعله، كما قد يفهم من الشطر الثاني.
فالشعر - إذن - كلمات تحت كلمات، وها هنا أوشكت أن أصحو من أسر الخواطر المتعاقبة، لولا أن سؤالا نشأ عندي هو: أهو الشعر وحده الذي يقال عنه إنه كلمات تحت كلمات؟ أليست الفلسفة هي الأخرى، في كثير جدا مما أورده أصحابها فيما قالوه أو كتبوه، كلمات تحت كلمات؟ وعدت من جديد إلى انسياب خواطري، أقفز من فيلسوف إلى فيلسوف باحثا عن الشواهد، كما يقفز العصفور المرح بين أفنان الشجر.
خذ أفلاطون نموذجا بارزا لفيلسوف عظيم، لا يجادل في ذلك مجادل، من داخل الأسرة الفلسفية أو من خارجها ، وراجع محاوراته - ومحاوراته هي مؤلفاته - وانظر فيم تبحث، تجدها تتناول أفكارا مما يتداوله عامة الناس في حياتهم اليومية، كلهم يتداولونها وهم على غير وعي بما تتضمنه تلك الأفكار من تفصيل. وإذن فالفيلسوف هنا بمثابة من يكشف عما يستتر وراء كلماتهم من كلمات، وهل رأيت بين عامة الناس من لا يتحدث عن الحب، والجمال، والصداقة، والعدالة، والفضيلة والشجاعة؟ وتلك وأمثالها هي الموضوعات التي يتناولها أفلاطون في محاوراته ليسبر أغوارها، ويتحسس أبعادها، فهو يحاور على لسان سقراط عن الحب في المأدبة، وعن الجمال في هبياس، وعن الصداقة في ليسيز، وعن العدالة في الجمهورية والقبيادس، وعن الفضيلة في خرميدس، وعن الشجاعة في لاحيس وهكذا. واختياره لأسلوب الحوار في البحث عن حقائق تلك الأفكار وأمثالها، هو في حد ذاته دليل على أنها تحتمل الاختلاف في وجهات النظر، فما يراه فيها هذا المفكر، قد يرى فيها شيئا غيره مفكر آخر، أي إن المتحدثين عن المعاني التي من هذا القبيل إنما يضمرون حقائق لها، وأبعادا هي التي يكشفها الفيلسوف - من وجهة نظره على الأقل - فيكشف بذلك ثقافة معاصريه عند جذورها.
وأترك أفلاطون ممثلا للفلسفة في عصرها القديم، لأقفز نحو خمسة وعشرين قرنا من الزمان، فأقف عند واحد ممن يمثلون الفلسفة في عصرنا، وليكن برتراند رسل، فأجد الصورة قد ازدادت وضوحا بأن العمل الفلسفي في كثير من حالاته إنما هو كشف لكلمات قد اختبأت تحت كلمات، أي عن أفكار قد استترت في جوف أفكار؛ فمن أشهر الأمثلة على طريقة التحليل عند برتراند رسل، تحليله لهذه العبارة «مؤلف رواية ويفرلي هو اسكوت»، وهو التحليل الذي قيل عنه إنه النموذج الدال على اتجاه الفلسفة المعاصرة في تصورها لعلمها كيف يكون، ولماذا اختار رسل عبارة كهذه لا يبدو على مفرداتها ولا على تركيبها شيء من العسر الذي يتطلب التحليل؟ إنه فعل ذلك؛ لأن ما يستهدفه هو بيان ما تنطوي عليه أية عبارة تشير إلى مسماها عن طريق صفاته، فها هنا في عبارة «مؤلف رواية ويفرلي» مركب وصفي يراد به الإشارة إلى شخص بعينه، فيحللها الفيلسوف لتكون مثالا لكل عبارة وصفية أخرى، وليس هنا مكان التفصيلات في تلك القطعة التحليلية النموذجية، فالذي يعنينا في سياق هذا الحديث الآن هو أن نذكر كم أخرج رسل من هذه الجملة البسيطة مضمرات لا تخطر لنا على بال لا عند الوهلة الأولى ولا الوهلة العاشرة. وإذن فهنالك كلمات كثيرة جدا قد اختفت وراء هذه الكلمات، ولم يرفع عنها القناع إلا فيلسوف في مثل قامة برتراند رسل في براعة التحليل.
عند هذا المنعطف من خواطري المنسابة - وما زلت على جلستي المسترخية في جوف الحوت الطائر بنا عبر المحيط - أوشكت على الوثوب من ميدان الفلسفة إلى ميدان آخر، لعله أوضحها دلالة على طبيعة الإنسان كيف تطوي كلمات تحت كلمات، وأعني ميدان التحليل النفسي، وكدت عندئذ أنطق بصوت مسموع: وماذا تقول في فلتات اللسان وقدرتها على فضح المستور في صدر من أفلتت منه خلال الحديث؟ لكن رفيقي في تلك اللحظة ذاتها أخرجني من دنياي الباطنية، بسؤال ألقاه في أذني:
قال: أراك تحدق بعينيك في لا شيء، فأين سرحت بك الأفكار؟
Bog aan la aqoon