إن «برهان الخلف» في معالجته للقضايا التي يراد فحصها، أشبه شيء بالآلة التي ندرس بها الغلال في الحقول، لا تضيف إليها جديدا، لكنها تفصل الحبوب في ناحية والقش في ناحية، وكذلك برهان الخلف لا ينتهي بنا إلى قضايا جديدة ، كائنا ما كان الموضوع الذي بين أيدينا، إذ إن مهمته منحصرة في اختبار الأفكار المراد اختبارها من حيث الصلابة وصحة التكوين، وهو اختبار يشبه ما يؤديه المهندسون في اختبارهم لصلابة المعادن، إذ يعرضونها لآلات تحاول مطها وليها وضغطها وتهشيمها إذا استطاعت، فتظهر من هذه المحاولات قوة تلك المعادن أو ضعفها، وهكذا الحال بالنسبة للأفكار عند فحصها ب «برهان الخلف».
29
كانت طريقة ابن رشد في «تهافت التهافت» هي أن يعرض ما أورده الغزالي في «التهافت» نقطة نقطة، يضعها بلغة الغزالي نفسه، ثم يأخذ في بيان أوجه الضعف المنطقي الذي رأى أن الغزالي قد وقع فيه، فإذا أمعنا نحن النظر إما في قول الغزالي، وإما في رد ابن رشد، لم نجد في أي القولين إلا تحليلا منطقيا من النوع الذي أسميناه «برهان الخلف»، وحسبنا مثل واحد نسوقه لبيان ما نريد، ونراعي في اختيارنا للمثل أنه موجز يسهل إيراده، وليكن ما نختاره هو القضية الخامسة في تسلسل القضايا المعروضة حول المسألة الأولى، وهي المسألة الخاصة بقول الفلاسفة عن العالم إنه قديم.
فقد عارض الغزالي قول الفلاسفة باستحالة أن تكون هنالك إرادة قديمة تتعلق بشيء حادث، وكانت معارضته في الصورة الآتية:
كيف عرفتم استحالة ذلك؟ «وعلى لغتكم في المنطق: أتعرفون الالتقاء بين هذين الحدين، بحد أوسط، أو من غير حد أوسط؟ فإن ادعيتم حدا أوسط - وهو الطريق النظري - فلا بد من إظهاره، وإن ادعيتم معرفة ذلك ضرورة، فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم؟ والفرقة المعتقدة لحدوث العالم بإرادة قديمة لا يحصرها بلد، ولا يحصيها عدد، ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عنادا مع المعرفة، فلا بد من إقامة برهان على شرط المنطق، يدل على استحالة ذلك ...»
30
بعبارة موجزة من عندنا، نلخص بها اعتراض الغزالي على قول الفلاسفة باستحالة أن يخلق الله بإرادته الأزلية عالما محدثا يجيء فيه مجرى الزمن، نقول: هذه الاستحالة المزعومة إما أن تكون نتيجة لقياس، وفي هذه الحالة نلحظ أن عناصر القياس غير متوافرة؛ إذ ليس هنا حد أوسط يربط بين الطرفين، وإما أن تكون إدراكا حدسيا، لكنها لو كانت كذلك لاتفق عليها جميع الناس. وواقع الأمر أن الناس يختلفون في شأنها، ولعله واضح أن الغزالي هنا لم يزد على أن أظهر ما في قول الفلاسفة من مفارقة، مما يؤيد ما أسلفناه.
فماذا قال ابن رشد تعليقا على اعتراض الغزالي؟ قال ما معناه إنه ليس بصحيح ما زعمه الغزالي من أن المعرفة الأدلية - أي المعرفة المدركة بالحدس - يعترف بها جميع الناس، «لأن ذلك ليس أكثر من كونه مشهورا، كما أنه ليس يلزم فيما كان مشهورا أن يكون معروفا بنفسه.»
31
ونلاحظ في إجابة ابن رشد أنه لم يتعرض للشق الأول من اعتراض الغزالي، وهو أن قول الفلاسفة ليس قياسا كامل الأجزاء، واكتفى بالرد على الشق الثاني، الخاص بالإدراك بالحدس، فضلا عن أن إجابة ابن رشد - كما نرى - لم تزد بدورها عن تحليل عبارة الاعتراض الذي قدمه الغزالي، تحليلا يظهر ما فيه من أوجه الضعف. وعلى هذا النحو يجري «تهافت التهافت»، وذلك هو ما صرح به ابن رشد نفسه في أول سطور كتابه، إذ قال: «إن الغرض في هذا القول، أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب «التهافت» لأبي حامد، في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.»
Bog aan la aqoon