ما لا ينفك عن الحوادث حادث.
وهنا يتصدى ابن رشد لهذه المقدمات؛ ليبين أنها لا تتصف باليقين، وبالتالي فما يبنى عليها لا يعدو أن يكون جدلا وليس هو بالبرهان. فالمقدمة الأولى هنا تتحدث عن «الجواهر» وكأن وجودها واضح بذاته، مع أنها لو كان وجودها مفروضا على العقل فرضا، لسلم به الجميع، ولقالوا عنه قولا يتفقون عليه، وليست هذه هي الحال. وفي المقدمة الثانية نسبة الحدوث للأعراض، كأن الحدوث لا يكون للجواهر أيضا، فإذا شككنا في حدوث الأعراض، جاز لنا كذلك أن نشك في وجود الجواهر. وأما المقدمة الثالثة فهي لا تحمل معنى واحدا محددا؛ إذ يمكن فهمها على وجهين؛ أحدهما: ما لا يخلو من جنس الحوادث فهو حادث، والثاني: هو ما لا يخلو من حادث مخصوص منها.
21
والخلاصة التي ينتهي إليها ابن رشد إزاء هذا المثل الواحد من أمثلة التفكير عند الأشعرية وسائر المتكلمين، هي أنهم بهذا التفكير لا هم من أهل البرهان الذين يقيمون أدلتهم على مقدمات يقينية واضحة، ولا هم قدموا شيئا يتناسب مع الجمهور؛ لأن سواد الناس لا قبل لهم بهذا الضرب من الجدل العويص، الذي قد يتعذر على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور.
22
ولا يفوتنا أن نذكر هنا بأن ابن رشد، وقد وضع طائفة المعتزلة بين الطوائف الأربعة، لم يتعرض لمناقشتها مناقشة تفصيلية كالتي أجراها مع الأشعرية، قائلا في ذلك: «وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها ... ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية.»
23
ولقد كان في ذلك على حق؛ لأنه ما دام نقده موجها إلى طريقة القياس التي استخدموها، وهي طريقة الجدل التي تعتمد على مقدمات مشهورة بغض النظر عن يقينها، فإن المعتزلة هي والأشعرية وسائر ضروب المتكلمين سواء، ودحض فرقة منهم هو دحض للفرق جميعا.
وأما الصوفية فبرغم اختلاف طريقتهم عن طريقة المتكلمين، إلا أنها ليست طريقة مركبة من مقدمات واقية، وإنما يعتمد الصوفية في معرفتهم لله على شيء يلقى في النفس إلقاء، فمهما قيل في هذه الطريقة، فهي على أية حال مما لا يندرج تحت مقولة الفكر النظري. وأما وقد دعانا القرآن إلى «النظر» فليست طريقة الصوفية - إذن - هي المقصودة. وإذا فرضنا أن إماتة الشهوات التي يمارسها الصوفي في حياته، شرط ضروري لصفاء الذهن استعدادا للنظر، فليست هي التي تفيد المعرفة بذاتها.
5
Bog aan la aqoon