ابن رشد في تيار الفكر العربي
1
مجال النظر في هذا البحث محدود بالكتب الثلاثة الآتية لابن رشد: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» و«تهافت التهافت»، وهي الكتب التي عرض فيها ابن رشد آراءه الخاصة، في مشكلات كانت قد لبثت فترة طويلة من الزمن، مدارا للنظر عند رجال الفكر المسلمين. ولم يكن ابن رشد في هذه الكتب - كما كان في معظم كتبه الأخرى - شارحا لفلسفة غيره، مع كل ما تميز به ذلك الشرح من أصالة، وما اشتمل عليه من إضافات.
ولقد انتهت بي محاولة النظر، إلى نتائج أرجح لها الصواب، وأرجو أن تكون جديرة بالعرض والمناقشة، ومن أهم تلك النتائج ما يلي:
أولا:
كانت الغاية عند ابن رشد، هي أن يبين أن ما جاء في الشريعة وحيا، فيما له صلة بحقيقة الكون ، هو نفسه ما يستخلصه العقل من دراسته للكون دراسة مباشرة، فكأنما نحن أمام كتاب واحد كتب بلغتين: كتاب الإسلام وكتاب الكون، فنقرأ في هذا ما نقرؤه في ذاك، شريطة أن نحسن فهم اللغة التي ينطق بها كل منهما.
فسلك ابن رشد إلى غايته تلك طريقين، جعل لكل طريق منهما مؤلفا خاصا. أما أول الطريقين فهو أن يبدأ الرحلة من الشريعة لينتهي إلى النتائج التي كان العقل قد وصل إليها في دراسته للكون، وكان ذلك في كتاب «مناهج الأدلة»، وأما الطريق الثاني فهو أن يسير في الاتجاه المضاد، بأن يبدأ الرحلة هذه المرة من النتائج التي حققتها الدراسة العقلية - وهي ما أطلق عليه اسم الحكمة - لينتهي إلى ما أوردته الشريعة وحيا، وكان ذلك في كتاب «فصل المقال». وإذن فالغاية من الكتابين واحدة، وإن يكن قد وصل إليها بالسير في اتجاهين متضادين.
وفي هذا المعنى يقول ابن رشد: «... فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور، التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة، أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة؛ أعني لا على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، ولهذا المعنى اضطررنا نحن، في هذا الكتاب (أي «مناهج الأدلة») أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها، وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة ... لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة، ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول، أعني: فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة.»
1
لكننا نلاحظ أن ابن رشد وهو يسير رحلته بادئا من الشريعة في كتابه «مناهج الأدلة» قد عزز القول بذكر موضوعات مما كان محورا للنظر بين الأطراف المختلفة، على حين أنه في سيره المضاد، البادئ من الحكمة، في كتابه الآخر «فصل المقال»، كاد يقتصر على حديث في قواعد المنهج، دون أن يتعرض للمسائل العينية التي كانت مطروحة للبحث.
Bog aan la aqoon