أم هي يا ترى أزمة الضمير لا تقتصر علينا، بل تجاوز حدودنا لتشمل العالم كله؟ إنه ليخيل إلي أن ثمة شبها قريبا بين ما كنت أعرضه في الأسطر السابقة، وما ورد في جمهورية أفلاطون، أثناء محاورة المتحاورين عن العدالة ومعناها، فقد طرح موضوع العدالة، وتحديد معناها - كما نعلم - في مستهل كتاب الجمهورية، لكن الحديث فيه قد طال، وتفرع حتى شمل شطرا كبيرا من ذلك الكتاب، وكان الغرض منه هو أن يكون الفيلسوف على بينة تامة بمعنى العدالة؛ لأنها هي أساس الدولة كما أراد أن يتصورها ويصورها. طرح السؤال على المتحاورين وكان سقراط بالطبع محور المناقشة، يديرها ببراعته المعهودة، فيبدأ كيفالوس بالقول بأن العدالة هي في صدق القول، والوفاء بالدين (بتسكين الياء)، لكن بعد مناقشة قصيرة ظهر قصور هذا الرأي ورفض، فتقدم بعده بوليمارخوس برأي آخر يقول فيه إن العدالة هي في مساعدة الأصدقاء، وإلحاق الضرر بالأعداء، فنوقش هذا الرأي مناقشة طالت بعض الشيء، وهنا ضاق صدر ثراسيماخوس بتلك المناقشات التي تتناول العدالة من هوامشها وتترك الصميم، موجها اللوم إلى سقراط في مماطلته تلك. وبعد أخذ ورد بين سقراط وثراسيماخوس، كان فيه العتاب الجميل، طولب ثراسيماخوس بطرح الرأي الذي يراه، فقال: «إذن فاصغ إلي، إنني أعلن أن العدالة ليست إلا صالح الأقوى.»
وقعت هذه الإجابة وقع الصواعق على آذان الحاضرين، فماذا عسى أن تكون العدالة التي ينحصر معناها في خدمتها لمصالح الأقوياء؟ وأراد سقراط بتهكمه المعهود أن يستخف بالرأي فبدأ بسؤاله لصاحب الرأي قائلا ما معناه: إنني أسألك لأفهم، أيكون اللحم الذي يأكله المصارع هو معنى العدالة عندك إذ المصارع قوي، وصالحه من أجل قوته تلك هو أن يأكل اللحم؟ فقاطعه ثراسيماخوس ضيقا بتهكمه على رأي جاد وفي صميم الموضوع ؛ فليس الأمر هنا أمر مصارعين، وما يأكلونه لتقوية عضلات أجسادهم، بل الأمر متعلق بأنواع الحكم. «ألم تسمع قط أن أنواع الحكم تتباين، فمنها حكم الطاغية، ومنها الديمقراطية، ومنها الأرستقراطية؟ وأن العنصر الحاكم هو الأقوى دائما؟ وأن الحكومة في كل حالة تصنع القوانين لصالحها؟ فالديمقراطية تصنع قوانين ديمقراطية، والملكية تجعلها ملكية وهكذا، وبعد سن هذه القوانين تعلن الحكومات أن ما هو عادل بالنسبة لرعاياها، هو ما فيه صالحها هي نفسها، وتعاقب من يخالف ذلك على أنه خارج على القانون وعن العدالة.»
لكن مؤلف المحاورة - أفلاطون - عرف كيف يتناول المتحاورون هذا الرأي بالنقد، حتى انصرفوا عنه إلى غيره. وظني أنا كاتب هذه السطور أن المحاورة لم تعط رأي ثراسيماخوس هذا، العناية التي كان يستحقها؛ إذ فيه من الحق أكثر جدا مما يبرر أن يتناوله الحوار بالاستخفاف الذي تناوله به.
على أنني يا إسماعيل يا ولدي ما ذكرت هذا الجزء من الحوار الأفلاطوني الطويل عن العدالة ومعناها، إلا لأوجه انتباهك إلى ما يحدث في حياتنا نحن، فالقوي بجاهه ونفوذه أو من هو في سبيله إلى أن يظفر لنفسه بقوة الجاه والنفوذ، ليس من البلاهة بحيث يسيء إلى الناس، ثم يسمي إساءته إساءة، بل يبحث لإساءته عن اسم خلاب جذاب، كأن يطلق عليها اسم العدالة أو النزاهة أو حسن الإدارة، أو ما إلى ذلك من أسماء تمتلئ بها قواميسهم.
كنت أحدثك منذ لحظة قصيرة كيف بدأت المناقشة عن معنى العدالة كما وردت في محاورة «الجمهورية»، وكيف ألقى ثراسيماخوس بقذيفته في وجوه زملائه، وفي وجه سقراط بصفة خاصة؛ لأنه هو الذي كان يدير المناقشة، وذلك حين رآهم يحومون حول الموضوع، ولا يقعون على صميمه، وذلك الصميم عند ثراسيماخوس هو أن الأقوى هو الذي يقرر ماذا يكون عدالة، وماذا لا يكون، مؤسسا ذلك على مصلحته الخاصة، وزاعما أنه إنما أراد الحق كما ينبغي أن يكون. وإني لأتساءل وما زلت أتساءل منذ قرأت هذه المحاورة العظيمة لأول مرة في أول الثلاثينيات: لماذا لم ينصف المتحاورون رأي ثراسيماخوس ، مع أنه الحقيقة الواقعة التي تصدم كل من أراد إنكارها؟ أيكون ذلك لأن شيخ الفلاسفة أفلاطون، قد أراد أن يسير بالمناقشة سيرا يؤدي به، لا إلى واقع العدالة كما يقع كل يوم أمام أبصارنا، بل إلى المثل الأعلى كما ينبغي أن يكون؟ أظن ذلك، وأما ذلك المثل الأعلى الذي قصد إليه، فهو أن العدالة في حقيقتها ليست كائنا قائما بذاته، بل هي محصلة عناصر أخرى، فإذا ما اجتمعت تلك العناصر في مجتمع قلنا عنه إنه مجتمع تسوده العدالة. وخلاصة رأيه في ذلك هي أن المجتمع الذي تسوده العدالة هو ذلك الذي يوضع كل فرد من أفراده في الموقع الذي يناسب قدراته الفطرية.
وإنما أردت الإفاضة في الشرح - يا إسماعيل يا ولدي - لكي أفتح عينيك لواقع الحياة في بلادنا، فلا تقل - مثلا - إنني أكثر علما من فلان، فلماذا لا أوضع فيما خلقني الله له، ثم يوضع فلان ذاك الذي هو أقل موهبة وأقل علما فيما لم يخلقه الله له، لا، لا تقل هذا يا إسماعيل يا ولدي؛ لأن ذلك معناه أنك تريد لبلدنا عدالة من الصنف الذي تخيله أفلاطون، وهو المثل الأعلى، لكن أفلاطون ومن لف لفه - كما تعلم - فلاسفة يطيرون بأجنحة من الشمع فوق السحاب لا تكاد تمسها لسعة الشمس الصافية، حتى تذوب الأجنحة، ويهوي المساكين إلى سطح الأرض ركاما من حطام، فخير لك إذا أردت النجاح أن تعترف بعدالة الأمر الواقع، التي قدمها ثراسيماخوس، والتي هي العدالة كما نعرفها نحن في حياتنا؛ وأعني العدالة التي يقيم الأقوياء موازينها، فكن قويا بمعيارهم تكن عادلا في كل ما تقول وتفعل، إلى الدرجة التي تستطيع عندها أن تكون عالما بلا علم، وأديبا بغير أن تمسك بالقلم. إنها أشياء أشبه بالمعجزات يا ولدي ... لكن لا، وألف مرة لا - يا إسماعيل يا ولدي - فهؤلاء العلماء بغير علم، والأدباء بغير كلمات، والفنانون بغير الفراجين والإزميل سيبحث عنهم أبناء الجيل التالي، فلا يجدونهم، لا، بل لن يبحث عنهم أحد؛ لأن أحدا لن يسمع لهم صوتا ولا ذكرا.
اعمل يا إسماعيل ما وسعك العمل، صل ليلك بنهارك، كن دءوبا وراء أهدافك العليا دأب الكوكب الدوار، اجعل لنفسك رسالة تؤديها للآخرين، وإلا كانت حياتك نافلة لا تغني أحدا ولا تغنيك. وقد يطول بك الزمان قبل أن تقطف الثمر، لكنك بإذن الله بالغه وقاطفه. انظر إلى من حفظ الناس أسماءهم وحمدوا أفعالهم أو أفكارهم أكانوا من أنصار العدالة على نموذج ثراسيماخوس أم كانوا من أنصار العدالة على طراز أفلاطون؟ أكانوا ذوي جعجعة بلا طحن، أم عرفوا مواقع قدراتهم، فأنتجوا وبقي ذكرهم حيا على صفحات التاريخ، إن الله - يا ولدي - لا يضيع أجر من أحسن عملا.
تلك هي الرسالة التي استوقفتني في الكراسة المجهولة، لم يجرؤ الوالد أن يواجه بها في حياته ولده، فرأيت نشرها لعل ولده يتلقاها، فيستريح أبوه في مثواه.
هيا إلى اقتحام العقبة
إنني لا أعرف - يا عزيزي القارئ - من أنت؟ أي مرحلة من مراحل العمر عسى أن تكون وكم خبرت - يا ترى - حياتنا وحياة العالم من حولنا؟ ثم لا أعرف عنك ما هو عندي أهم من ذلك كله، وهو موقفك مما أكتبه إذا كنت تتابع قراءته. أأنت في موقف المتقبل أم في موقف الرافض؟ فحتى الرسائل التي تأتيني من القراء، لا تدلني على كثير مما أريد الآن أن أعرفه؛ لأنها رسائل تعكس اتجاهات مختلفة اختلاف أطياف الضوء السبعة بعد اختراقه قطعة من البلور، فأين أنت - عزيزي القارئ - من تلك الأطياف؟ ذلك ما لست أعرفه. ومع ذلك فإني أوجه إليك أنت الخطاب؛ لأنني إذا كنت أجهل عنك كل شيء مما ذكرت، فأنا على يقين من أنك لا بد أن تكون قد علمت عني مما قرأته لي، أني أقول ما أعتقد أنه الحق، ولا أجامل أحدا، أو إن شئت عبارة أصدق وأدق، فقل إني لا أجامل أحدا إلا بالحد الأدنى من المجاملة، وهو الحد الذي يقتضيه مني كوني عضوا في مجتمع، وعلى هذا الأساس وحده، أذنت لقلمي أن يتقدم إليك بهذه الصفحات، بكل ما فيها من جرأة وصراحة ، فهي إن لم تجد عندك القبول والرضا، فلا أقل من أنها ستلقى منك العفو والمغفرة، فمصر هي مصرنا جميعا على السواء. وحسب المصري أن يصدق القول ويخلص النصيحة، فما بالك إذا كان هذا المصري المخلص الصادق قد بلغ من عمره ما بلغت، ومن حقه أن يفصح عما في نفسه قبل أن ينسدل الستار!
Bog aan la aqoon