تركت مجهري، وجلست أستجمع خواطري، فلم ألبث إلا لحظة «خاطفة» تبين لي منها أن مصدر الخطر علينا، بين هذه الصنوف البشرية كلها، هو «المغرور » صاحب «النفخة الكذابة» الذي يدعي ما ليس له، يدعي العلم وهو من العلم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ويدعي الأدب وهو في حياته لم يكتب أدبا ولم يقرأ أدبا، ويدعي ويدعي. وقد ينطلي علينا ادعاؤه، فنسلمه أمورنا، ويكون بعد ذلك ما يكون. أفلا يستحق منا «الغرور» وقفة هادئة لنكون بحقيقته أبصر؟
إنه إذا كان الغرور هو أن يظن إنسان بنفسه التفوق على الآخرين حين لا تكون تلك هي حقيقة الأمر. فليس من شك في أن كل إنسان - بناء على هذا التعريف - مغرور بطبعه، ولو أنها صفة تتفاوت درجاتها بين الناس. على أنه إذا كان كل إنسان على درجة من الغرور بنفسه بحكم فطرته ذاتها، فكل إنسان هو كذلك عاقل بحكم فطرته، ومن شأن العقل أن يحد من الغرور، كلما وجد عدوان المغرور على الآخرين يوشك أن يعرضه للخطر.
لكن هذا القول يحتاج منا إلى شرح وتحليل، وسنهتدي فيهما برأي «هوبز». •••
إن أساس السلوك كله، هو أن يحفظ الإنسان بقاءه أولا، فهو يأكل ليبقى، ويرتدي الثياب ليبقى، ويسكن البيوت ليبقى، وهو يحاول الكشف عن قوانين الطبيعة ليبقى، ويقاتل الأعداء ليبقى، إنه يقيم لنفسه الحكومات ليبقى، ويسن لنفسه القوانين ليبقى، ويخاف الله ويعبده ليبقى في آخرته كما بقي في دنياه، والآخرة في ذلك خير وأبقى.
وكلما ازداد الإنسان قوة كان أقدر على حفظ بقائه، والقوة قد تكون قوة العضلات، لكنها كذلك قد تكون شيئا آخر أو أشياء.
فالفضيلة قوة، بمعنى أنك إذا سلكت السلوك الذي يعده الناس فاضلا، وعرف الناس فيك هذه الصفة، شملوك بحمايتهم، يذودون عنك فلا تكون هدفا للمعتدين، فلا عن حب لسواد عينيك، بل لأنهم عرفوا فيك شخصا مأمون الجانب لا يخشى منه عدوان على ما لهم من حقوق، ألا تسمعهم يقولون إن حب الثناء طبيعة الإنسان؟ ذلك لأن طبيعة الإنسان الأصيلة هي أن يحافظ على بقائه، فإذا عرف أنه في الناس موضع ثنائهم، عرف بالتالي أنه موضع حمايتهم، وأنه بمأمن من شرهم. •••
وهل المجد بكل أنواعه وضروبه في أن يثني عليك الناس ويمدحوك؟ إنك تنشد المجد لتظفر بالثناء، ولست تريد الثناء؛ لأن له وقعا في الآذان فنغما جميلا، بل تريده لأنه دليل على أنك قد اتقيت الشر والخطر، فضمنت لنفسك البقاء.
حتى الجمال، تنشده المرأة؛ لأنه لها مصدر قوة، فمن حازت نصيبا منه، ضمنت لنفسها البقاء بمقدار ما حازت. إن الإنسان ليسعى ليحقق لنفسه أكبر سعادة ممكنة في ظروفه القائمة من حوله، وأكبر السعادة هو بعينه أكبر الضمان لاستمرار البقاء، فالصحة سعادة، والمال سعادة، والجاه سعادة والبنون سعادة؛ لأنها جميعا ضمانات للبقاء المستمر الآمن، فإذا رأيت الناس يلتمسون ما يهيئ لهم المتعة والراحة، ويجتنبون مصادر الألم والتعب، فما ذلك إلا لأن اللذة والألم - في حقيقة أمرهما - إن هما إلا قوة الإنسان وضعفه، يسير الإنسان نحو القوة في عافية، أو مال، أو جاه، فيسير بنفس الخطوات نحو الشعور بالسعادة، ويسير نحو الضعف في عافيته أو ماله أو جاهه، فيسير بالخطوات نفسها نحو الشعور بالألم والشقاء، لكن الإنسان إذ ينشد القوة - ليضمن البقاء - لا يقنع بمقدار معين منها، بل يسعى ليظفر بمزيد ليزداد قوة على قوة، فهو يريد مالا على مال، وجاها على جاه، وفتوة في الجسد فوق فتوته ... إنه في ذلك كله لا يريد الزيادة لذاتها؛ لأنه قد يعلم حق العلم أن ما لديه يكفيه، لكنه يريد هذه الزيادة ليزداد ضمانه ببقاء هذا الذي يكفيه، فيضمن بالتالي ألا تتعرض حياته لخطر أو فناء.
فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان، كان من طبيعته - تبعا لذلك - أن تشتد به الرغبة في أن يخشاه الناس ويطيعوه؛ لأنه بمقدار ما يجد عندهم من خشية وطاعة، يتحقق له ما ينشده من ضمان وجوده. إن الإنسان بطبعه يريد أن يكون له السبق على غيره في ميادين التنافس، وهو يريد السبق لهذا السبب نفسه، أي أن يكون في موقف حصين فلا يسهل الاعتداء عليه أو النيل منه. إنه لا يهتم بالسبق ذاته ولذاته، بل يهتم به؛ لأنه وسيلة للغاية التي لا غاية له بعدها، وهي أن يبقى بقاء آمنا، ولذلك كان كثيرا جدا ما يكفيه أن يعترف له الناس بالسبق، ولو لم يكن سابقا بالفعل، يكفيه أن يعترف له الناس بأنه أقوى أبناء البلد جسدا، أو أكثرهم مالا، أو أعزهم نفرا، أو أغزرهم علما، أو أبرعهم فنا، حتى لو لم يكن كذلك في حقيقة أمره؛ لأن اعتراف الناس بسبقه عليهم، يصرفهم عن تناوله بالأذى، فيأمن بذلك ما عسى أن يخشاه على بقائه من ضروب الخطر. •••
وإذا كان هذا الذي ذكرناه صحيحا بالنسبة إلى ما تتميز به طبيعة الإنسان، عرفنا لماذا يكون الإنسان مغرورا بطبعه. إنه يولد وفي جبلته وهم بأنه خير من سواه، ولذلك نراه يتصرف على هذا الأساس، حتى تعلمه الضربات التي يتلقاها من خارج نفسه، بأنه ليس في حقيقة الواقع خيرا من سواه كما توهم. وهنا يأتي دور العقل الذي من شأنه أن يحد من غرور صاحبه استدلالا من حقائق الدنيا المحيطة به، وغرور الإنسان بنفسه وعقله الذي يسلم به هذا الغرور كلاهما فطرة.
Bog aan la aqoon