أكتب إليك الآن من هذه المدينة التي أرسلت إليها بقصد إبعادي عنك؛ لكي أسألك الصفح عن الإساءة العظيمة التي وجهتها إليك في كتابي الأخير، فقد بلغني ما تكابده الآن رغم أن أهلي والدائرة المحيطة بي يحاولون جهدهم لمنعي من تنسم أخبارك، ومعرفة ما هو جار لك، آه لو تدري كم عانيت من الآلام بسبب الكتاب الذي اضطررت إلى إرساله إليك، وكم أعاني الآن من أجل ما أنت فيه.
علمت أنك زرت السيد ج. وأنا موقنة بأنك إنما فعلت ذلك من أجلي، ومن أجل المطلب الأعلى الذي جمع قلبينا ووحدهما في سبيل مبدأ يسمو على جميع ما يعتقدون وما يوقنون، ولكن تشجع! فإنهم لن يحولوا بين أعيننا والنور؛ فالنور لا تمنعه الظلمة، إنهم يريدوننا أن نكون مجرد أجسام؛ مادة لا تطلب إلا مادة، أما نحن فنشعر أن لنا أنفسا ونحس ما تصبو إليه نفسانا، فإذا اضمحل هذا الشيء الذي نشعر به فما هي السعادة التي تبقى لنا؟ إنهم لا يدرون إن تعب النفس لأعظم كثيرا من تعب الجسد؛ لذلك يبحثون عن راحة جسدي، أما راحة نفسي فلا يأبهون لها .
سليمي العزيز، اصفح عني لما أكون قد سببته لك من الآلام، وثق بأني لم أقصد شيئا من ذلك، وإن كل قصدي كان أن أحول دون حدوث ما قد حدث، وأن أتحمل الآلام وحدي؛ لأني أعلم كم تحتاج إلى راحة البال في عملك الشاق، تشجع! فقريبا أكون قريبة منك، أما الآن فلك سلام محبتك.
دعد
كنت أقرأ وأنا أشعر بأني أكاد أطير فرحا لورود هذا الكتاب الترياقي العبارة، ولكن لما فرغت منه وتحولت إلى السرير لإيصال البشرى إلى صديقي، انقبضت نفسي أيما انقباض؛ لأني وجدته قد زهف إلى التلف ولم يبق منه إلا رمق ضعيف وذماء قصير، فطويت الكتاب ووضعته في جيبي، وبعد قليل قضى سليم، وانتهى ذلك العراك الهائل الذي كان ثائرا في داخله بين مثاله الأعلى وأغراض الناس الأولية المنحطة، بين مرامي نفس كبيرة ومرامي نفوس صغيرة، بين المطلب الإنساني الأعلى والمطلب الحيواني الأدنى.
فلما أعلنت وفاته أقبل نفر من الأصحاب الذين عرفوه واتصلوا به في حياته، وكانوا قلائل، وبعض تلاميذه الذين كانوا يدرسون الموسيقى عليه، في الوقت المعين لدفنه، وقبل أن نخرج به إلى الجبانة جاءت فتاة ترتدي ثوبا أسود بسيطا، وذهبت توا إلى السرير ووقفت تنظر إلى جثمانه بعينين مغرورقتين، ثم مدت يدها وأمرتها على جبينه ووجهه، وفاضت من عينيها دموع سخينة، كانت هذه الفتاة دعد وكان الحاضرون أثناء هذا المشهد واقفين صامتين كأن على رءوسهم الطير.
أخيرا هدأت دعد روعها ومسحت عينيها بمنديلها، وتحولت عن السرير وجعلت تجيل نظرها في الحضور حتى استقر أخيرا علي فتقدمت إليها وخرجنا من الغرفة، فقالت: «اصدقني كيف كانت أيامه الأخيرة وكيف مات؟» - «كانت أيامه الأخيرة أيام شؤم وعذاب أليم، إن الصدمة كانت عنيفة جدا لنفسه الرقيقة الشعور، فقد خيل إليه أن مطلبه الأعلى قد اضمحل، وكان تأثره عظيما جدا، وزاد في عذابه أن بعض الناس هنا أضرموا جحيما ماديا حول نفسه حتى ضاق ذرعا، واستولت عليه من جراء ذلك حمى مطبقة قضت عليه.» - «أولم يرده كتابي؟» - «كان ورود الكتاب ساعة دخوله في طور النزع وهذا هو.» ودفعت الكتاب إليها فتناولته وهطلت من عينيها دموع غزيرة مسحتها بمنديلها ووضعت الكتاب في حقيبتها.
وكان الجثمان قد وضع في التابوت، فسرنا إلى الجبانة وواريناه التراب وسط صمت تام، ثم انفرط عقد الجماعة وتفرقوا، ولزمت أنا الآنسة دعد فقالت لي في الطريق: «هل يمكنني أن أعتمد عليك؟» - «بكل تأكيد.» - «إذن؛ أريد أن أذهب برفقتك إلى غرفة سليم؛ لأني أريد أن أقف على ما ترك من آثار موسيقية.»
فقلت: «كما تريدين.» وذهبنا معا إلى الغرفة وقدتها إلى البيانو، فوجدنا عليه أوراق سلالم موسيقية تتضمن شجوية صغيرة كاملة، وإلى جانبها ذلك الشعر المنثور الذي ذكرته فيما تقدم، فتناولت دعد المنظومة الموسيقية أولا وفحصتها، وللحال أدركت رقة أنغامها، وظهر عليها أثر انفعال نفسي شديد، ولكنها تجلدت وتناولت الورقتين المكتوب عليهما الشعر، فما قرأته إلى آخره حتى تأثرت تأثرا لم تعد تقوى معه ركبتاها على الثبات، وكادت تهوي إلى الأرض لولا أني أسرعت إلى إسنادها واقتيادها إلى المقعد بجانب البيانو، فمددتها عليه وبادرت فأتيتها بكأس ماء بارد فسقيتها منها، ورششت الباقي على وجهها، فساعدها ذلك على مقاومة الإغماء، ولما عادت إليها قواها نهضت وعادت إلى الأوراق، فجمعتها وفتحت درج الطاولة الصغيرة الذي كان سليم يحفظ منظوماته الموسيقية فيه، فأخذت دعد الأوراق التي كانت فيه وهي تشتمل على القسم الأول من منظومته الكبرى، وجعلت الجميع رزمة واحدة وقالت: «سآخذ هذه الأوراق جميعها.»
قلت: «لك ما تريدين؛ فليس من يطالب أو يعتني بها.»
Bog aan la aqoon