والحب والعطف أقل في الواقع من الخوف في النفس أثرا؛ لذلك نرى أن أقل خروج في الطبيعة على أوجه تجانسها الظاهر مدعاة إلى إحداث انفعالات نفسية في الإنسان، أمعن في النيل من شعوره من أبعث مظاهر الطبيعة على الروعة الهادئة والإعجاب الساذج. فإذا وقع في عقل الهمجي من آثار الطبيعة أبلغها في الشدة والعتي، أو إذا أصابه من الأمراض مهلكها، أو من أخطار الطبيعة ما يؤدي به إلى العدم، فهنالك يستمد الهمجي من تلك الحوادث أسبابا يبني عليها اعتقاده في الشياطين والأرواح الشريرة. ففي ظلام الليل الحالك أو في حدوث العواصف الشديدة العاتية وترديد الوديان والجبال صدى تلك الرياح المتناوحة، أو في ظهور مذنب عظيم يضيء الليل بوهجه وضيائه، أو في حدوث خسوف أو كسوف تظلم معه جوانب الطبيعة بعد إشراقها، أو في وقوع قحط يذهب بالحرث ولا يبقي النسل، أو في أي مرض يكون له تأثير ما على قوام العقلية السليمة، بل في كل ما يسوق إلى شر أو ينتج ضرا، مبعث في نفس الهمجي على الشعور بشيء يتخيله مما وراء الطبيعة.
وهو إذ يعيش معرضا إلى قواسر الطبيعة وأعاصيرها، جاهلا سلسلة الأسباب التي تصل بين أطرافها المشعبة، يقضي الهمجي عيشه في خوف مستمر، متخيلا أن هالة من الأرواح تحيط به، وأن جوا من الشر يؤويه.
ذلك يدل على أن منبت الدين الأصلي اعتقاد فطري، ينزل منزلة الضرورات التي يرجع أصلها إلى الغرائز، جرت إلى تشكيله حالات أحاطت بالإنسان، فاختلفت نظراته في المعتقد الديني باختلاف تلك الحالات. (2) كفاية التأمل ونشوء الفلسفة
إذا خرجنا من عالم الاعتقاد ولجنا عالم التأمل. ويحسن بنا أن نبين هنا أن الإنسان كما هو معتقد بالطبع واجتماعي بالطبع، هو كذلك متأمل بالطبع، ولن يكون تأمل بلا اعتقاد ولا فلسفة بلا تأمل.
يبدأ الإنسان بالاعتقاد من غير أن يكون له اختيار في أن يتأمل في حقيقة ما يعتقد به، فإذا داخل الإنسان الشك في حقيقة شيء مما يعتقد به، بدأ يتأمل في ما يقوم عليه اعتقاده من المقدمات، وفيما يمكن أنه يصح لدى العقل من النتائج التي تؤدي إليها هذه المقدمات. فإذا صح لديه من طريق ما أن الحقائق التي اعتقد بها بديا لا تلائم ما وصل به إليه التأمل ، أخذ من ثم يتلمس طريقا يوفق به بين معتقده واستنتاجه؛ أي بين دينه وفلسفته. غير أنه غالبا ما يعز عليه أن يلغي الدين، كما يعز عليه أن يلغي الفلسفة، فيحاول من ثم المزج بينهما مزجا أخرج لنا كل صور الدين العليا، وكل مذاهب الفلسفة اللاهوتية التي قامت على مدى الأزمان. (3) كفاية الإثبات ونشوء العلم
من الاعتقاد ومن التأمل ممزوجين تتولد حالة ثالثة، هي من حيث الأصل فطرية في الإنسان. على أن هذه الحالة لن تنشأ إلا مع الشك؛ فإن الإنسان إذا شك في معتقده ثم شك في استنتاجاته التأملية، نزع ضرورة إلى الإثبات، فإذا كملت لديه هذه النزعة الإثباتية نشأ مع كمالها الأسلوب العلمي في أول مدارجه، فإذا تدرج في طريق الإثبات تحيزت الطريقة العلمية الإثباتية على الأسلوب الحديث، فأصبحت عبارة عن وحي الحواس، تحديدا لها عن وحي المعتقد ووحي التأمل.
وهنا يجب علينا أن نرجع إلى الفلسفة الإثباتية
؛ لنقول بأن ما وضع أوغست كونت من القواعد في تقسيمها يلائم تمام الملاءمة تقسيم المعارف الإنسانية على حسب الكفايات العقلية في الإنسان. فإن دراسة الإدراك الإنساني من كل ناحياته تدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نتبينه من أثره في النظام الاجتماعي والتجاريب التاريخية الثابتة.
إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر بالتوالي على ثلاث حالات مختلفة: الأولى اللاهوتية وهي التصورية التخيلية، والثانية المتنافيزيقية الغيبية وهي التأملية المجردة، والثالثة الإثباتية - أو تجاوزا - اليقينية الواقعة، هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة الإثباتية؛ أي فلسفة «كونت» الحديثة، وعليها يقوم التقسيم الأخير الذي اعتمد عليه الباحثون في تمييز العلوم بمقتضى الكفايات العقلية في الإنسان. أما الحالة الإثباتية فهي التي ينشأ فيها العلم الصحيح.
إن من أخص ما نحتاج إليه في تحديد معنى العلم أن نظهر الفرق بين نزعة العلم ونزعة الدين؛ أي الفرق بين ما تنتج نزعة الاعتقاد ونزعة الإثبات في الإنسان من المظاهر.
Bog aan la aqoon