ولا أترك جانب الانطواء والفرار والتخفي دون أن أكملها بما يلحق بها عند الأحدب وإبراهيم معا، وعند الأحدب بصفة خاصة؛ وذلك أنهما معا قد يوصفان بالجبن في الحياة العامة وفي زحمة الناس، لكن انظر إليهما فيما يكتبانه وينشرانه تجد الجرأة والشجاعة والعلانية الصريحة، كل منهما في ميدانه! فكأنهما وهما يلوذان بمأمن البيت، فما ذلك إلا ليزداد شجاعة على الورق.
وملمح رئيسي ثالث في النفس - بأضلاعها الثلاثة - التي نروي قصتها، هو سرعة الانتقال من البشر والبشاشة إلى الجهامة والعبوس؛ فما هي إلا لحظة خاطفة، حتى ترى الأحدب - بصفة خاصة - قد وثب من عالم الضحك والفكاهة إلى دنيا الصرامة والجد؛ أيكون ذلك طابع المصري من حيث هو مصري، دون أن يكون الأمر مقصورا على الأحدب وحده، أو حتى على الثالوث كله؟ يجوز، والبيئة تعمل على ذلك؛ فلا يفصل الصحراء الجدباء عن الوادي الأخضر إلا خطوة واحدة تخطوها، فإذا بك في جدب بعد إثمار أو في إثمار بعد جدب، وإن ذلك الخط الرفيع نفسه لهو الفاصل عند المصري بين الحياة والموت، ثم بين الموت والبعث؛ فليس غريبا - إذن - أن ينعكس ذلك في سرعة الانتقال إبان الحياة من البشر إلى العبوس، وعلى أية حال فتلك هي حالة الأحدب الذي - كما قلت عنه - أبرز أشخاصنا الثلاثة تلوينا وتأثيرا.
إن من لا يعرف من الناس ثالوثنا في تباينه تباينا تتكامل فيه الأجزاء، يدهشه أن يرى تلك النفس جادة غاية الجد بعد أن رآها عابثة كل العبث، أو أن يراها عابثة بعد أن رآها جادة، يدهشه أن يراها وكأنها قلب كلها لا تعرف إلا حرارة العاطفة وقوة نبضها بعد أن كان رآها فخيل إليه أنها عقل ولا شيء فيها إلا العقل الذي لا يلين مع الحب ولا يضعف مع الميل.
اللهم إذا كانت «المراهقة» بمثل هذا الوثوب السريع من فلك إلى فلك، فتلك النفس التي نروي قصتها قد امتدت بها المراهقة منذ مرحلتها العمرية حتى شاخ صاحبها وابيض شعره ووهن عظمه وعرجت ساقه وعميت له عين وعشيت الأخرى.
وسمعة رابعة نتميز بها نحن الثلاثة جميعا، لا فرق فيها بين رياض عطا وإبراهيم الخولي وبيني، وهي شدة التواضع الذي كثيرا ما يسرف في حق نفسه فيبدو للآخرين ضعة لا تواضعا، ومن ثم تسرع المخالب إلى نهشه والأنياب إلى تضريسه؛ هو تواضع ورثته «النفس» عن الوالدة لا عن الوالد؛ فقد كانت هي التي أورثتها معظم أخلاقها؛ وأما الوالد فلم يكن متواضعا، وجاءت هذه «النفس» لا لتأخذ عنه بل لتميل إلى اجتناب ما كان يتميز به.
لكن تواضع «النفس» التي نتابع سيرتها، لم يكن تواضعا غير مشروط، بل كان مقيدا بظروفه؛ فهو تواضع بلا حدود أمام الضعفاء غير الأدعياء؛ وأما إن صادفتها شخصية معتدية، لجأت إلى الانسحاب حتى لا تضعف أمامها فتؤكل، وقلما لجأت إلى مواجهة اعتداء باعتداء، وقد لا يكون ذلك عن عفة بقدر ما يكون عن شعور بالنقص والعجز.
إنه لو ترك لشهرزاد حبل الكلام لما سكتت مهما صاحت الديكة في أذنيها لتذكرها بإصباح الصباح، ولماذا تسكت و«النفس» التي تتحدث عنها تغري بالمضي في الحديث الذي ينشر عنها ما انطوى ويفصح عما استتر، ففيها قوة وضعف، وفيها عقل وقلب، وفيها علم وأدب وفن، وفيها الخير والشر والفجور والتقوى؛
ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها «صدق الله العظيم».
Bog aan la aqoon