كان إبراهيم الخولي في مرحلته الإنتاجية الأولى، بل إلى أن بلغ من العمر خمسين عاما، لا ينزل قيد أنملة عن التمسك بالفكرة القائلة بضرورة محاكاتنا للغرب في كل شيء، لا فرق في ذلك بين صغيرة من الأمور وكبيرة، وحبذا لو أكلنا كما يأكلون، وارتدينا الثياب كما يرتدون، وكتبنا من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، ودع عنك أن نجعل وجهة نظرنا علمية المنهج ملتزمة لحقائق الواقع الصلب كما يجعلون، ولم يكن إبراهيم الخولي حتى ذلك العهد من حياته يطيق الإشارة إلى العرب وتراثهم، وكان منطقه في ذلك بسيطا واضحا؛ فالغرب قوي ثري واع بصير، فلماذا لا أسلك كما يسلك لأحقق ما حققه؟
ولكن أين تذهب الجوانب الوجدانية من هويتي؟ وبأي معنى يحق لي عندئذ أن أحب وطني وأهلي ولغتي ، وأن أتغنى بمجدي وتاريخي؟ ربما لو سئل إبراهيم الخولي يومئذ هذه الأسئلة، لأجاب - وأظنه قد سئل أكثر من مرة، وكان في كل مرة يجيب - قائلا: ليست حضارة الغرب مقتصرة على أمة واحدة، بل إن فيها الإنجليزي والفرنسي والإيطالي؛ وكل من هؤلاء يعرف كيف يعيش حضارة العصر مضافا إليها تلك النبرات الوجدانية بأرضه هو وأهله وتاريخه، فلماذا لا ينطبق ذلك نفسه على المصري (وكان إبراهيم حتى ذلك الحين لا يتحدث عن «العربي») فيحيا في مناخ عصره، ويتغنى كما شاء بمصر وأهلها وتاريخها.
لكن جاءت في حياته اللحظة التي شاء له الله عندها أن تزال الغشاوة عن عينيه، فتشرق عليه الحقيقة كما تشرق الشمس فتبدد الظلام، والحقيقة بسيطة بساطة أعداد الحساب؛ فشعوب الغرب جميعا لا يملكون بين أيديهم إلا حضارة واحدة وثقافة موحدة الأصول، وهما الحضارة والثقافة اللتان تطورتا مع الأيام عن جذور اليونان والرومان، بالإضافة إلى ما استعاروه من سائر الحضارات استكمالا للنقص؛ وأما نحن فموقفنا مختلف؛ إذ إن بين أيدينا حضارتين لا حضارة واحدة، وثقافتين لا ثقافة واحدة، فنشأت لنا مشكلة تريد الحل الذي لا يتحقق بمجرد الهروب من المشكلة وإغماض العين عنها؛ «فأنا مصري، ولكنني أتكلم العربية، وليست اللغة مجموعة من رموز الرياضة تستخدم للرمز المجرد الذي لا يثير في القلب عاطفة أو انفعالا، بل اللغة - في مفرداتها وفي طرائق بناء تلك المفردات في جمل - إنما تنطوي في الوقت نفسه على أغوار ثقافية لبثت تزداد عمقا كلما ازدادت الشعوب المتكلمة بها خبرة بالحياة وممارسة لها، فكل لغة فيها إلى جانب كونها رموزا تشير إلى مسميات، جانب آخر هو العمق الشعوري، أو إن شئت فقل إنه جانب «الشعر» منها. فإذا كنت مصريا يتحدث اللغة العربية، إذن فأنا عربي الأغوار والأعماق، يستحيل علي النظر إلى الدنيا إلا خلال تلك العدسات»؛ لم يعد إبراهيم يشك في أنه إلى جانب مصريته؛ فهو عربي الوجدان وليس في ذلك خيار.
ومن هنا انفتحت أمام إبراهيم آفاق جديدة؛ إذ نظر فرأى أمامه مشكلة ثقافية نابضة بالحياة ، وتفرض نفسها عليه وعلى كل ذي فكر من مواطنيه العرب - أيا كان موطنهم من الوطن العربي الكبير - وتلك المشكلة هي: كيف السبيل إلى حياة نوفق فيها بين الحضارتين وبين الثقافتين، فنعيش الموروث العربي في مناخ العصر وعلومه وفنونه؟
وشاء حسن الطالع أن تضع هذه المشكلة نفسها أمام إبراهيم في روحه الجديد، عندما ذهب إلى إحدى الجامعات العربية تلبية لدعوتها إياه، فوجد الفراغ ووجد المكتبة ووجد العزيمة، فكان أن أخذ يعب من ينابيع الأسلاف عبا، وأمامه هدف، هو الإجابة - على ضوء ما يطالعه - عن السؤال المطروح بين يديه، حتى إذا ما توافرت لديه المادة المناسبة، عرضها على الناس في سلسلة من الكتب أخذت تتوالى في الصدور مملوءة الصفحات بفكر جديد.
لقد كان إبراهيم قد ظن عند بلوغه الستين من عمره أن غروبه قد بدأ ليسلم نفسه إلى حندس الليل، لكن غروبه قد تمطى بأصلابه حتى الآن ما يقرب من عشرين عاما بعد تلك السن، وكان لذلك الغروب الطويل شفق وردي جميل، قد يبدو لإبراهيم نفسه أحيانا أنه أجمل حتى من شمس الضحى في حياته ومن شمس الظهيرة فالأصيل، ومن يدري؟ فلعل الناس إذا ذكروه بعدئذ، فسيذكرونه بما أنتجه في ضوء الشفق؛ شفق الغروب. •••
لكن ذلك الشفق الوردي الجميل، أخذت تجتاحه بقع سوداء تتكاثر في أرجائه يوما بعد يوم، حتى لتوشك الآن أن تحيله إلى ليل حالك، لولا بقية من إرادة يحاول بها إبراهيم الأحدب (هكذا أحب أن أسميه في مرحلته الأخيرة التي امتزج فيها عقل بعاطفة) أن ينتشل نفسه حينا بعد حين من هوة العدم، ومن تلك البقع السوداء ما أصاب البدن من علل عشيت بها العين، وعرجت الساق، ودارت الأذن بدوار، ولكن ما كان أفدح من تلك العلل البدنية في البقع السوداء، غدر الأصدقاء غدرا يمكن اتخاذه علامة على روح هذه الفترة التي تجتازها بلادنا، بما أحدثته في النفوس من ضيق وكرب وتوتر، يغري الصديق بأن يأكل لحم صديقه ميتا.
فأما العلل البدنية فقد بدأت مع إبراهيم بدوار الأذن، وكان إبراهيم قد جاوز الستين ببضع سنوات، وأسرع إلى استشارة الأطباء، حتى لقد سافر إلى إنجلترا ليعرض حالته على خبير، وأراد الطبيب الخبير أن يبدأ بسؤال مريضه عن معالم حياته السابقة:
الطبيب :
ما هي أهم الأمراض التي أصابتك فيما مضى من حياتك؟
Bog aan la aqoon