59

لم يكن في وسع زميلنا إبراهيم - أثناء مقامه في بريطانيا - أن يرى ما يراه من الرعاية لكرامة الإنسان فردا فردا، بغض النظر في كل فرد عن عمله وثرائه، وأن يرى ما يراه من ولاء هؤلاء الأفراد لوطنهم، حتى ليستجيبوا لنداءات أولي الأمر منهم في ساعات الخطر دون رقيب ولا حسيب؛ أو قل إن إبراهيم عندئذ لم يكن في وسعه أن يرى ذلك الذي رآه هناك، ثم لا ترد إلى ذهنه المقارنات، فكانت تلك هي الفترة التي أخذ يرسل فيها من لندن إلى مجلة الثقافة التي كانت تصدرها في القاهرة لجنة التأليف والترجمة والنشر، مجموعة من مقالات أدبية ثائرة ساخرة، هي من أنقى وأقوى وأصدق ما خطه قلمه.

كتب في أول مقالة أرسلها في هذا الصدد، ساخرا مما نتخبط فيه من خرافة، فقال فيما قال: ... أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم، فأنبئ بما كان وما يكون؛ أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه، استفسرني ذات يوم حالم فقال: رأيت - اللهم اجعل خيرا ما رأيت - رأيتني أنظر إلى كفي فيغيظني من الأصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذ من تلك الأصبع الطويلة ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار، وما هو إلا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب، كله أصابع: أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره، والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، تريد أن تنال مني لتفتك بي، فتملكني الفزع والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار، ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من أصبعي الجريحة، فصحت وصحوت. فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم، فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين ... فأصابع كفك هي الناس من حولك، تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب؛ والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز بضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا ... فحدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل، فكان جزاؤك عذاب الدارين ... وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء ...

هكذا جاءت السخرية من ثقافتنا فيما أخذ يكتبه إبراهيم يومئذ؛ فهي ثقافة تأبى في صميمها أن تسوي بين الناس، ومن حاول هذه التسوية نزلت عليه النقمة، ولعل سخرية إبراهيم من مناخنا الثقافي الذي كنا نعيش فيه لم تبلغ قمتها بمثل ما بلغته في مقالة بعث بها وجعل عنوانها «بيضة الفيل»، أراد بها أن يهزأ من ضروب التفكير الغبي الافتراضي في عصر كانت القنبلة الذرية قد بدأت تتفجر وتهز العالم بدويها، تبدأ تلك المقالة هكذا:

قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء ...

ومضى الكاتب في مقالته يدير مناقشة وهمية في مشكلة وهمية، ومع ذلك فقد أخذت آراء «العلماء» (الحظ هنا كلمة «علماء») تختلف! وراح المتناقشون يدعمون آراءهم بأسانيد يشتقونها من كتب الفقه وكتب اللغة وكتب التاريخ، وأخيرا حدثت المفاجأة في آخر المقالة:

وزلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: هي يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية، قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.

وأخذت المقالات تتوالى من إبراهيم وهو في لندن، على هذا النحو الثائر الساخر؛ لأنه كان ينظر أمامه فإذا الدنيا قد انتقلت إلى حضارة أخرى غير حضارته، فيها - فوق العلم - كرامة الإنسان، ثم ينظر خلفه إلى حالة وطنه فإذا هو غارق إلى قمة رأسه في خرافة، تزيدها بشاعة ضروب من الأخلاق الاجتماعية تهدر للإنسان قيمته وكرامته.

انتهت بإبراهيم دراسته بإجازة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالته في «الجبر الذاتي»، جاء يوم مناقشة الرسالة، فلم يكن هناك إلا إعلان وضع أمام المبنى المركزي لجامعة لندن (وهو نفسه المبنى الذي يضم مكتبة الجامعة، التي جعلها إبراهيم مكانه الرئيسي في ساعات العمل)؛ أقول إنه لم يكن هناك يوم الامتحان إلا إعلان وضع أمام ذلك المبنى جاء فيه أن لجنة امتحان ستعقد اليوم في غرفة رقم كذا، لمناقشة الطالب الفلاني في رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من «كلية الملك»، ولقد فوجئ إبراهيم بذلك الإعلان وهو يدخل المبنى، فعرف منه رقم الغرفة التي يتوجه إليها في الموعد المضروب، وذهب ليجد اللجنة الوقورة جالسة على منصتها، وقوامها عضوان: الدكتور هاليت الذي أشرف على البحث، والدكتور ماكمري ممتحنا خارجيا جاء من جامعة سانت أندروز بأسكتلندة، وأغلق باب الغرفة على الأستاذين وأمامهما الطالب، فتلك هي طريقة مناقشة الرسائل في بريطانيا، فلا جمهور ولا خطابة ولا مظاهرة ولا تصفيق. ودارت المناقشة في ذلك الهدوء المهيب، وخرج إبراهيم من الغرفة وهو الدكتور إبراهيم؛ واسمه الكامل هو إبراهيم الخولي.

عاد الدكتور إبراهيم بعد فوزه بما أراد أن يفوز به. كان في محطة القطار الذاهب به إلى دوفر، ليبدأ المرحلة الأولى من طريق السفر إلى مصر، حين جاءه من مكتب البعثات المصرية في لندن من ينبئه على عجل بأن برقية من القاهرة قد جاءت لتطلب من إبراهيم أن يمر على باريس في طريق عودته، ليقضي هناك شهرا ونصف شهر في منظمة اليونسكو، ووقع في حيرة لم تطل إلا بضع دقائق، قرر بعدها أن يرسل حقائبه مشحونة لتسبقه إلى الوطن، لا يبقى منها إلا ما يعيش به فترة الإقامة في باريس، وعاد إلى مسكنه بلندن ليقضي يوما أو يومين يعد فيها نفسه لهذا الموقف الجديد.

ثم جاء يوم السفر، وكانت غاية السفر هذه المرة هي باريس ليظل بها شهرا ونصف شهر يستأنف الطريق بعدها عائدا إلى القاهرة، وركب إبراهيم قطار «السهم الذهبي»؛ كثيرون هم أولئك الذين كتبوا عن الصداقة والأصدقاء، فوفقوا وأجادوا - هكذا كتب إبراهيم في خطاب أرسله إلي يومئذ من الطريق - لكني لا أحسب أحدا من هؤلاء جميعا قد كتب شيئا في نوع من الصداقة عجيب، يمر في حياة الإنسان مرور الأطياف والأحلام، فلا يستغرق إلا ساعة أو ساعتين، أو قل يوما أو يومين، ومع ذلك تراه يترك في النفس أثرا قد يبلغ من الشدة والعمق ما لا تبلغه الصداقة الثابتة الدائمة؛ فلقد قابلت في القطار فتاة، ولم نكد نبدأ الحديث حتى خيل إلينا أننا أصدقاء منذ أمد بعيد، جعلت أخبرها وجعلت تخبرني كأن حبل الحياة متصل بيننا، ثم بلغ بنا القطار غايته، ولعلي كنت أحس بهذه الخاتمة القريبة، ولعلها كانت تحس، فأخذت صداقتنا تتكثف وتغزر لحظة بعد لحظة، كأنما عز علينا أن يتبدد هذا اللقاء فتشبثنا ممسكين بقبضتين قويتين على هذا الود الوليد، لعله يدوم، لكن القطار بلغ بنا غايته، وافترقنا إلى الأبد ...

Bog aan la aqoon