يقص علي الأحدب هذا الحلم، ثم يقول: لقد حاولت عندئذ أن أفسره على النظرية الفرويدية في تأويل الأحلام، فقلت إن مبراة أبي التي وجدتها إلى نصفها مغروزة في قاع النهر الذي جف ماؤه، هي رمز الذكورة التي أورثنيها، والتي ربما كانت في حياته مكبوتة وهمت الآن بالظهور، لكن مجرى الحياة قد جف ماؤه، وبهذا الجفاف وقفت سلسلة التوالد، ثم ماذا وجدت حين عبرت إلى الضفة الأخرى، الضفة الغربية التي كانت هي المستقر الأبدي عند أجدادي القدماء، وجدت مواتا في موات، لم يكن هناك كائن حي واحد، ولكن لماذا أرادت أمي في كفنها أن تشدني معها إلى عالم الموتى، وبهذه الطريقة البشعة المخيفة؟ لقد كانت عودتني طول حياتها أن ترعاني من الأذى، حتى وأنا رجل مكتمل النمو، ترعاني كأنني ما زلت في عينها الطفل الضعيف الذي تهدده العوادي، أتكون قد أسرعت بعربتها وتابوتها لأنها في عالم الغيب قد لمحت بروحها الخالدة خطرا داهما يحيق بي، فجاءت لتنقذني منه قبل وقوعه ... لست أدري، لكني على كل حال قمت لساعتي، وبحثت عن مبراة أبي في مخلفاته، فوجدتها صدئة بعض الشيء، فنظفتها، أرهفت نصلها، وخبأتها في خزائني، وما زلت حتى اليوم أحملها معي كلما ارتحلت هنا أو هناك، لكن ما مسستها مرة إلا وتذكرت ذلك الحلم المخيف وأخذتني الرجفة، وما وقعت عيني عليها مرة في أدراج مكتبي إلا ونحيت عنها وجهي بحركة آلية سريعة، لكنني سرعان ما أضحك من ضعفي أمام الخرافة، إنها كانت أضغاث أحلام ومضت مع الريح.
لكنها أضغاث أحلام جاءت متكاثرة بعد أن فقد الأحدب رءوس أسرته، واندس في ضميره أنه هو وأقرانه من الطبقة الثانية في الأسرة قد أزيل السقف من فوق رءوسهم، وأصبحوا أمام الخلاء اللامتناهي المجهول وجها لوجه.
لكن أقدار الحياة والموت لا تجري بالضرورة مع حساب الأعمار؛ فقد ظن الأحدب أنه هو وأقرانه في السن من أفراد الأسرة قد جاء دورهم للقاء ربهم بعد أن ذهب عنهم معظم من كانوا يكبرونهم من الآباء والأمهات؛ لأنه لم يكن يدري أن مشيئة الله قد سبقت بأن يموت شباب الأسرة قبل كهولها.
وبدأ السير في هذا الاتجاه العكسي بابن عم الأحدب، الضابط الشاب الذي أوشك أن يكون بين شباب الأسرة صفوة وخلاصة. نعم، لقد كان ذلك الضابط الشاب مع الأحدب على طرفي نقيض في الاتجاه والميل، فبينما الأحدب فيه شيء من طبيعة الشاعر والفنان. كان ابنه عمه الشاب لا تربطه بدنيا الشعر والفن إلا أنها موضوع للهزء والسخرية، وكان الأحدب مكبا معظم وقته على الكتب والدفاتر، وأما الضابط الشاب فبينه وبين الكتب والدفاتر ما يكون بين الأعداء، وإن الأحدب ليذكر يوما أضحكه فيه ابن عمه ضحكات من القلب - وهو حدث نادر في حياة الأحدب - حين جاءه ابن عمه خلال السنة الدراسية التي قضاها الشاب في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، قبل التحاقه بكلية الشرطة، جاءه ليقص عليه ساخرا بعض ما كان يتلقاه في محاضرات الأدب الإنجليزي، وكان المحاضر أستاذا إنجليزيا مشهودا له بالكفاءة الممتازة؛ لأنه هو نفسه شاعر بالإضافة إلى كونه أستاذا للأدب، لكن الشاب لم يكن يفهم عنه كلمة واحدة، وكانت الأسماء والمصطلحات تتحول في سمعه لتصبح أمساخا شائهة، فلما أخذ يقص على الأحدب بعض ما حصله عن «العصر الألبسا» راح الأحدب يسترجعه محاولا أن يدرك المقصود بهذه الأسماء التي لم يسمعها من قبل، ويظل يلح عليه في السؤال حتى يتبين له أن «الألبسا» هذه هي ما بقي في سمع الشاب من «إلزابث»، وأن كنير هو الملك لير، وأن «كبيس» هو ماكبث، وهكذا كان الأمر في عشرات الأسماء كما وردت في مذكرات الضابط الشاب عندما كان طالبا للأدب الإنجليزي خلال بضعة أشهر.
لا، لم يكن ذلك الشاب مخلوقا لعلم أو أدب، وإنما أراد له خالقه أن يبرع براعة تلفت الأنظار جميعا في أدائه لواجبات الضابط الشرطي؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن أخذ يقفز في المناصب والدرجات قفزا سريعا، وهو بعد لم يبلغ الثلاثين.
وسافر الأحدب، ليغيب فترة من الزمن، وكان مقدرا لقطاره أن يغادر محطة القاهرة قبيل طلوع الشمس؛ ولذلك اكتفى ذوو قرباه وأصدقاؤه بتوديعه في الليلة السابقة، حتى لا يكلفوا أنفسهم مشقة اليقظة المبكرة يوم سفره، لكن كم كانت دهشته وفرحته عندما فوجئ بابن عمه الشاب يذهب إلى المحطة لتوديعه في تلك الساعة الباكرة، وكان هو الواحد الوحيد الذي وقف لتوديعه حتى يتحرك القطار؛ فوا عجباه للأقدار وما تدير! مضى من الزمن ما مضى، ثم ذهبت الأنباء الحزينة إلى الأحدب حيث كان، تحمل له الخبر بأن ابن عمه الضابط الشاب قد اختاره الله إلى جواره، وصعق الأحدب للمفاجأة، وأخذته نوبة حادة من البكاء، ورأته سيدة مصرية في غمرة بكائه، وسألته فقص عليها، فعجبت السيدة أن يكون هذا البكاء كله لوفاة ابن عم؟ لكن المسألة يا سيدتي ليست مرهونة بدرجة القربى كما هي الحال في توزيع التركات؛ لأن للقلوب وروابطها ترتيب آخر ودرجات أخرى. ثم أخذ الأحدب يسأل نفسه في حيرته: أكان ذلك إذن هو السر الإلهي في أن الضابط الشاب دون سواه من الأقربين والأصدقاء هو الذي ذهب إلى المحطة في تلك الساعة الباكرة لتوديعه، فهل كان يا ترى يحس بقلبه أنه وداع أخير!
وما كاد الأحدب يعود إلى مصر، حتى سأل عن قبر ابن عمه ليزوره؛ فقد كانت مقبرة الأسرة حتى ذلك التاريخ في قريتها بالريف، فلما عاجلت المنية زينة شبابها التمسوا له مثوى عند من استضاف الجثمان في مدفن أسرته، وحز في نفس الأحدب ما سمعه من تفصيلات، وكأنما الذي رحل عنا شريد مقطوع من شجرة كما يقال، فما كان من صاحبنا الأحدب إلا أن يعمل على أن تكون للأسرة مقبرتها بالقاهرة، ما دام الانتقال إلى القرية قد تعذرت أسبابه، ونقل جثمان الفقيد الشاب من مكانه ليكون أول من يرقد من أبناء الأسرة في مدفنها الخاص.
وجاءت الضربة الثانية لتكون أفدح؛ فقد أصابت المنايا بخبطها العشوائي أصغر أشقاء الأحدب، بعد أن كان هذا الأحدب يتوهم أن مقادير الحياة والموت تجري مع حساب الأعمار. كان بينه وبين شقيقه الأصغر ما يقرب من عشرين عاما، وإنه ليذكر جيدا ذلك المساء الذي كان فيه يجلس مع أبيه ترقبا لنبأ الوليد الجديد، وجاءت البشرى بأن ولد لنا ولد، وفي هدوء عجيب التفت الوالد إلى ابنه الأحدب يسأله: ماذا تسميه؟ فأجاب الأحدب: نسميه أحمد. وقد كان ؛ لم تكن حياة أحمد بالنسبة للأحدب ما تكون الحياة بين شقيقين وكفى، بل اختلط فيها عنصران واندمجا معا في موقف شعوري واحد، هما عنصر الأبوة وعنصر الأخوة ممتزجين، ولا يستطيع الأحدب أن يقص شيئا عن حياته في الفترة التي تلازما خلالها، إلا ويجد نفسه في حياة واحدة مع شقيقه الأصغر، فذلك الشقيق هو موضع جده وموضع مزاحه في وقت واحد، هو موضع جده لأنه جعل نفسه مسئولا عن تربيته على نحو يميل به إلى حب العلم والأدب، وهو موضع مزاحه لأنه عامله كما يعامل اللاعب لعبته.
كان أحمد في مرحلة الدراسة الابتدائية عندما وضع له الأحدب خطة التزود بالأدب، ورأى أن يبدأ معه بأدب المنفلوطي، ولم يترك الغلام ليقرأ وحده ما يقرؤه، بل لازمه وتابعه لفظا لفظا شارحا له المعنى مرة، موضحا له مواضع الجمال الأدبي مرة، ولعل الأحدب في ذلك كله قد أحسن النية ولكنه أساء الاختيار والتصرف؛ إذ ما هو إلا أن أخذت الغلام رجفة وانفجر معها باكيا في توتر عصبي غريب، ولم يدر الأحدب ماذا يصنع ليرد الغلام إلى هدوئه وسكينته، فلما أن هدأ الغلام وسكن وغاب في نعاس لبضع ساعات، صمم الأحدب ألا يكون له شأن بأخيه بعد ذلك فيما يقرؤه وما لا يقرؤه.
لكن الغلام كان بطبعه متفوقا ومتميزا في كل ناحية من نواحي حياته؛ فهو في دراسته ممتاز، وهو في رياضته ممتاز - كان هو بطل التنس في مدرسته الثانوية - وهو في علاقاته الاجتماعية ممتاز، ففضلا عن كونه مركز اهتمام الأسرة بجميع أفرادها. كان ذا نشاط ملحوظ في «الكشافة» وفي «الجوالة» وله زمرة طيبة من الأصدقاء يحبهم ويحبونه.
Bog aan la aqoon