لكن المسألة وإن تكن قد انتهى أمرها من حيث الإدارة والتحقيق، إلا أن نبأها سرعان ما انتشر في المدينة حتى على أفواه عامة الناس، وأخذوا يروون إشاعات من خلق أوهامهم، يصفون بها كيف أن الله يرسل لهذا الملحد نذره ليستقيم بعد ضلال؛ من ذلك أنه كان يسير ذات يوم في شارع السوق والهواء عاصف، فسقطت كتلة ضخمة من الخشب على بعد قدم واحدة منه هاوية من سطح مرتفع، فما هو إلا أن شاع في الناس أن الله جلت قدرته قد أراد أن يتوعده هذه المرة، فإن لم يرتدع أنزل عليه شديد العقاب.
واتجهت الأنظار إلى الشيخ الدكتور غراب، لترى ماذا هو صانع بعد أن فسدت شكواه الأولى التي طلب فيها من مدير الإقليم أن يعزل المدرس لأنه خطر على أبنائهم، فأخذ صاحبنا الشيخ يترقب فرصة أخرى، وسرعان ما سنحت؛ وذلك أن المدرسة قد أعدت للبلد برنامجا ثقافيا يلقي فيه مدرسو المدرسة محاضرات عامة، وكان أن اختار الأستاذ رياض عطا موضوع الأحلام وتفسيرها على الطريقة العلمية الجديدة، قائلا للناس إنها لا شأن لها بالغيب، وأنها تعكس الماضي ولا تصور المستقبل إلا باعتباره امتدادا للماضي، مختتما محاضرته بقوله: «فإذا كنت قد هدمت لكم عقيدة راسخة من نبوءة الأحلام؛ فليس الذنب ذنبي أنا، ولكنه ذنب العلم الحديث.» وكان الدكتور غراب من الحاضرين، فلم يلبث أن أقامها حربا عنيفة على هذا الذي جاء «ليهدم العقيدة الراسخة» على حد قوله. وبدأت الحرب أن نهض فورا ليسأل المحاضر: وماذا تقول في تأويل الأحلام على لسان سيدنا يوسف عليه السلام؟ فأجابه المحاضر على البديهة: لو كان مثل هذا التأويل في وسع الناس كافة، لما عد معجزة لنبي من أنبياء الله. لكن هذه الأمور في مثل هذه الظروف لا تسير بالحجة، بل تسير بصرخات الانفعال، وهذا هو ما كان يومئذ؛ مما أوقف رياض عطا بعد ذلك موقفا فيه الشهرة وفيه الخطورة في آن معا.
ولست أدري ماذا كان شعوره الداخلي إزاء هذا كله؛ لأنه لم يكن يخالطنا بما يكفينا لنعلم دخيلة نفسه، ولم يمض بعدئذ أسبوع واحد، حتى فاجأنا بغرابة جديدة.
فقد كان التلاميذ يجتمعون ساعة الغداء تحت سقيفة كبيرة في فناء المدرسة، وكان كل منهم يجيء ومعه غداؤه منذ الصباح؛ ومعظم التلاميذ من القرى المحيطة بالمدينة؛ فثيابهم - كما تعلم - عنوان الفقر كله والبؤس كله، وكذلك طعامهم الذي كانوا يصرونه في مناديلهم القذرة إلى أن تحل ساعة الغداء، وإذا بصاحبنا يذهب إلى تلك السقيفة ذات يوم، والأولاد مجتمعون على غدائهم، فيقف أمامهم صامتا ينقل فيهم عينيه، ثم يبدأ لهم في درس يعلمهم به كيف يجعلون ثيابهم أقرب إلى الذوق الجميل، وطعامهم أدنى إلى قواعد الصحة؛ وقد خرجنا نحن المدرسين من حجرتنا «لنتفرج» على هذا «الإمام الواعظ» ماذا يقول لأطفال صغار ينوء أهلوهم تحت فقر فظيع وجهل أفظع، فكانت أول عبارة سمعتها قوله: «فلا تختر ملابسك من ذوات الألوان الفاقعة، ولا تجعلها ظاهرة الخطوط ...» إلى آخر هذه القواعد التي تفترض أن الطفل السامع في وسعه أن يختار بين ألوان وألوان، وبين خطوط وخطوط، كأنه لم يعلم أن سامعيه كانوا من فقر آبائهم بحيث لا يكون في الأمر اختيار بين ثوب وثوب وبين طعام وطعام.
لكنه التعليق بالمثل العليا - والحق يقال عن هذا الرجل - هو الذي أظهره في صورة الشاذ الحالم؛ إنه يتمنى الأمنية ثم يحاول تحقيقها فيوفق حينا ويعجز أحيانا، فيأخذه البأس لعجزه أكثر مما يأخذه السرور لتوفيقه.
لم يكن كثير الذهاب إلى المقهى عندما جاءنا مدرسا ناشئا، وكان في البلد شبه ناد يرتاده الموظفون عادة، فقصد إليه وحده ساعة العصر من يوم قارص البرودة، وأراد أن يأوي من المكان إلى ركن دافئ، ففتح بابا مغلقا ليجد نفسه في غرفة خالية إلا من قطع الأثاث التي تبدو للرائي على الفور أنها أعدت لفئة ممتازة من المرتادين، ولم يتعب نفسه بالتأويل والتفسير وبالسؤال والجواب، فحسبه أن وجدها غرفة نظيفة تحقق له الهدوء والخلوة، وما هو إلا أن جاءه المناول - وكان يونانيا - وشيء من الفزع على وجهه، ففاجأه الأحدب بطلب فنجان من القهوة.
المناول :
هل تسمح - من فضلك - بالذهاب إلى الناحية الثانية؟
الأحدب :
أية ناحية ثانية؟
Bog aan la aqoon