فقال صاحب الشارب الراقص: هل تذهب إلى المدرسة؟
قلت: نعم.
قال: اتهج اسمك.
قلت: ر ي ا ض: رياض.
قال: ما شاء الله.
فأراد أبي أن يزيد الصورة جلاء، وسألني سؤالا في الحساب، لكني لم أسرع له بالجواب، فضربني بكتاب ضخم على رأسي، فقال صاحب الشارب الراقص وهو يضحك: «أهكذا تضربه بالدنيا كلها على رأسه؟» ولم أفهم لهذه العبارة معنى ساعتئذ، لكني أذكر كيف عز على نفسي أن أضرب بالدنيا كلها على رأسي، فانفجرت باكيا، كما يحدث كثيرا للطفل أن يبكي مؤخرا؛ فقد يصاب ويجرح وهو لا يدري، حتى إذا ما نبهوه أن دماءه تسيل، أخذ في البكاء؛ ودارت الأيام، وجاء يوم كنت فيه تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وتسلمت الأطلس الجغرافي بين ما تسلمته من الكتب أول العام الدراسي، وأخذت أقلب صفحاته وأدير فيها البصر معجبا بألوانها، فإذا جاري يهمس لي: «هذه هي الدنيا كلها في هذا الكتاب بين يديك»، فعندئذ فقط فهمت الجملة التي قالها صاحب الشارب الراقص. انفجرت باكيا لتلك الجملة ولم أفهمها، فطلب مني والدي أن أكف عن البكاء، ولما عجزت عن طاعته، صفعني وأعاد لي أمره بأن أكف عن البكاء، ولست أدري الآن كيف استطعت أن أقف البكاء، لكني فعلت، وأعاد والدي سؤاله الحسابي من جديد وأراد الجواب السريع، لكني كنت في هذه المرة أعجز عن الجواب مني في المرة الأولى، فحملني بين ذراعيه حملا، وقذف بي خارج الغرفة كما يقذف اللاعب بالكرة، وقال متجها نحو صاحب الشارب الراقص في نغمة هادئة: لن يعيش لي ولد خائب، فإما أن يفلح أو يموت.
كنت والأحدب يقص علي هذه القصة الثانية أشخص له ببصري، وأتتبع انفعالاته على وجهه، والابتسامة الخفيفة لم تزل على شفتيه، لكنه كان يروي ويمثل الأحداث بيديه وذراعيه ولفتات وجهه، وفنجان الشاي في يدي، وفنجان الشاي في يده، فلا شربت ولا شرب، حتى فرغ، وضحكنا معا، وأخذنا نشرب لا أتكلم ولا يتكلم، وأبصارنا مرسلة خلال النافذة، ووجهانا مبتسمان، وكان مستطيل الضوء قد امتد حتى أخذ طرفه الداخلي يصعد على الجدار المقابل، وزحزحنا كرسيينا قليلا لنكون في الظل، فبعدت المسافة بيني وبينه، لا أدري ماذا كان في رأسه عندئذ؛ وأما أنا فقد ازددت يقينا أنني وقعت على المفتاح، فها هو ذا رجل قد شد بصره منذ الطفولة نحو الممكن لا نحو الواقع، فكلما حدث واقع وتحقق، توقع ما وراءه وهو يائس، وكلما قصرت قدرته مرة دون بلوغ الممكن - ولا بد أن تقصر؛ إذ «الممكن» ما ينفك يتراجع أفقه خطوة فخطوة إلى الوراء - تكونت على ظهره طبقة رقيقة من الهم؛ ولبثت الطبقات تتراكم على مر السنين، فإذا هذا القتب الذي يحمله فوق ظهره، مشحونا بهموم حياته كلها، لا يخفف منه ما يصيبه من نجاح؛ لأن عينيه لا تنظران أبدا إلى ما قد تحقق، إنما تمتدان إلى ما لم يتحقق والذي كان من الممكن أن يكون. •••
كانت الشمس قد دنت من الغروب، وزيارتي قد طالت عند الأحدب أكثر مما قد عودته وتعودت، لكني وجدتها فرصة سانحة أن يستطرد في ذكريات طفولته، فتذرعت بذريعة الشمس الغاربة ورغبتي في أن أرى الشفق من سطحه ذاك الذي تقع فيه غرفته، فسألته هلا أذن لي في أن أقف معه قليلا خارج الغرفة حتى نشهد غياب الشمس وراء الأفق؟ وخرجنا معه من غرفته، فحانت مني التفاتة إلى جلدة كتاب ملقاة كما اتفق، كتب عليها «رياض عطا» فعرفت بذلك اسمه كاملا؛ إذ لم يتبرع هو قبل ذاك أن يذكر لي اسمه ولا طلب مني أن يعرف اسمي، كأنما نحن فكرتان مجردتان التقتا في ذهن إنسان، أو كأننا شبحان من الأشباح التي تذكر بنوعها لا بأفرادها التي تعينها الأسماء، وحتى تلك الساعة لم أكن قد عرفت ماذا يعمل هذا الأحدب، ومم يكسب قوته وأين يقضي بياض نهاره.
وما كدنا نقف على السطح المكشوف متكئين على حافته التي تعلو إلى نصف إنسان واقف، حتى أثرت حديث طفولته من جديد، حافزا له أن ينطلق في ذكرياته، بأن أخذت أمدح فيه هذه الذاكرة التي ما زالت تعي حوادث كهذه قد طال عليها الأمد، مع أنني مهما كددت الذاكرة إلى ذلك العهد البعيد فما تعود إلي بشيء ذي بال.
فأحس بشيء من الزهو بنفسه، واستطرد يقول: إن من الأحداث التي وقعت لي وأنا في نحو الخامسة - وأستطيع تحديد هذه السن بتاريخ سكنانا عند مدخل درب الجماميز من ناحية قسم بوليس السيدة زينب - حادث سرقة، اشتركت فيه معي ابنة عمي - وكانت في مثل سني - فقد كان أبي وعمي وأسرتاهما يسكنان شقة واحدة، ولبثا حريصين على هذه المشاركة في السكن الواحد أعواما طويلة، وساعدتهما ظروف الحياة على أن ينتقلا معا كلما انتقلا، وأن يستقرا في بلد واحد كلما استقرا.
Bog aan la aqoon