لتحقيق التعاون العالمي ينبغي أن تقوم كل أمة بواجباتها نحو ذاتها، وواجباتها نحو الأمم الأخرى.
فأما فضائلها الذاتية أو واجباتها نحو ذاتها فالقيام بها أظهر ما يكون في التربية وفي صور الحكم.
أما التربية فإنها في كل العصور وسيلة لتحقيق غاية معينة، فترون الدكتاتوريات تنشئ أجيالها تنشئة إسبرطية محضة؛ لأن غايتها استكمال ما تستطيع من قوة لتبسط سلطانها على العالم كله أو بعضه، فتجردهم من حرية التفكير الشخصي وحرية النقد وحرية الاجتماع لتبادل الآراء وتنمي في أنفسهم مبادئ القومية الحادة والاستهانة بحقوق الغير والطاعة العمياء، وبالجملة تكون غاية التربية غاية حربية صرفة أو بعبارة أدق غاية الاعتداء على الأغيار وما في أيديهم، وليست الديمقراطيات مع الأسف بأحسن حالا من ذلك إلا قليلا؛ فإن التربية فيها مع ما بها من الحريات الفردية موجهة إلى الحرب أيضا، وفي مثلها العليا نماذج من أبطال الحروب الأولين والآخرين، فمناط المثل الأعلى في التربية الحاضرة بطل قتل في ساحة الحرب من إخوانه في الإنسانية أكبر عدد ممكن، لا شك في أن هذه التربية لا يمكن أن تكون غايتها التعاون العام أو السلام الدائم، بل لا بد للعالم، وقد اعتزم التعاون العام، أن يغير غاية التربية، فيستن نوعا من التربية يؤدي إلى حب السلام لا إلى حب الحرب، يؤدي إلى تحقيق الإخاء الإنساني، يؤدي إلى ترك المبالغة في الاعتزاز بالأجناس وترتيبها ترتيبا تحكميا عسى أن يكون الجنس الأخير منها خيرا من الجنس الأول المزعوم، وبالجملة ينبغي أن تترك إلى جانب عصبية الإنسان الأولى للقبيلة ولمعبودها المحلي الذي صنعه الإنسان بيده، إلى ما يقتضيه الإخاء الإنساني والتعاون العالمي من احترام لجميع الأجناس وسعي في إسعاد من قضت عليه المصادفات الشقية بأن يكون في سلم المدنية متأخرا عن سواه.
الإنسان المثقف
على هذا يجب على الأمة في تربية أبنائها أن تكون غايتها «الإنسان المثقف» ووسيلتها إلى ذلك: (1)
تثقيف ملكات الفرد الطبيعية: ملكات الجسم والعقل والنفس؛ بأن يقوم بمقتضيات حفظ الذات وحفظ النوع بالاعتدال التام ثم بواجب الصدق الذي يسبب له الاقتناع بكرامته، وواجب السخاء الشخصي بأن لا يقتر ولا يسرف، بل ينفق بالمعروف، وواجب كرامته من حيث هو إنسان فيرفض أن يكون تبعا لغيره في غير الحدود المفروضة عليه من جهة كونه عضوا في جمعية مدنية لها قوانين مرعية الأداء وواجب محاسبة نفسه على كل ما يخطر له من فكر أو يلفظ من قول أو يأتي من عمل، وضابط ذلك كلمة أفلاطون المعروفة «تعرف نفسك بنفسك» أن تعرفها بالدرس الدائم لحالها وسبر غورها في أعمق طياتها، ثم ينبغي أن يؤخذ الناشئ بتثقيف ملكات عقله بأن يتعلم ما هو ميسر له من العلوم والفنون، قال «كنت»: من ليس مثقفا فهو بهيمة، ومن ليس مؤدبا فهو متوحش. (2)
كذلك ينبغي أن تؤخذ الأفراد في التربية بتعلم القيام بواجباتهم نحو الغير، مثل حب الإنسانية ويعنى به العدل ورعاية الغير وعرفان الجميل والسخاء والمواساة في الضراء واحترام الأغيار في أشخاصهم وشرفهم وأموالهم، واحترام قوانين البلاد سرا وعلانية، وينبغي في تثقيف هذه الثلاثة الأنواع من الملكات الطبيعية أن يكون ذلك على يد أساتذة أحرار في مدارس حرة ليست تابعة مباشرة لسياسة الحكم كلما أمكن ذلك.
وأما واجبات الأمة من حيث صورة الحكم لتكميل ذاتها فينبغي أن تكون الأمة دائما مصدر السلطات في وطنها وأن يشترك أفرادها في حكمها على الطرق الديمقراطية وأن يكون الحكم فيها لمنفعة المحكومين لا لمنفعة الحكام، وأن تكون ولايات الحكم ضرائب يؤديها الأكفاء من أبنائها لا مزايا يختص بها المقربون من السلطات، ويتفرع على ذلك أن طالب التولية لا يولى.
هذا ما ينبغي من فضائل الأمة أو واجباتها نحو ذاتها.
وأما واجبات الأمم بعضها نحو بعض، فأول ما ينبغي هو إبطال هذا المذهب العتيق للسياسة الدولية مذهب الارتياب والدسائس والتجسس، وأن يستبدل به نقيضه؛ بأن تحل محل هذا المذهب الواجبات الأدبية التي يفرضها قانون الأخلاق على الفرد نحو غيره، وهي تتلخص في احترام حقوق الغير والسعي في إسعاده.
Bog aan la aqoon