هذا نموذج من أدب السياسة الدولية يتخذه الساسة لمجدهم ومجد ملوكهم وليلقوا به دروسا في الشر والظلم على الناس أجمعين، أفكان الذين اجتمعوا حول مائدة الصلح في فرساي أصلح نية وأصدق قولا من زملائهم في فينا من قبلهم بقرن كامل؟ لقد كان كتاب التاريخ السياسي يظنون أن مؤتمر فينا قد أخفق في مهمته مع أنه وقى العالم شر الحروب 39 سنة.
فهل كان مؤتمر فرساي أسعد حظا وأجدى على الإنسانية نفعا، مع أن سلامه لم يزد عمره على العشرين عاما حتى أمكن لأحد الساسة في الخريف الماضي أن يجمع بين الحرب ويسميها حرب الثلاثين من سنة 14 إلى سنة 44، وإذا لم يتغير الأدب السياسي عما كان في القرن الماضي، قال الكاتب المعروف «الدس هكسلي» عشية هذه الحرب الحاضرة: «إن أدب السياسة الدولية هو أدب القرصان، أدب الخداع، أدب الشيخ الفيكونت الفاست، بل لم يتغير هذا الأدب منذ عشرين قرنا حين قال الفيلسوف سنيك، هذا هو قانون الإنسانية: كل ما هو محرم عليك إتيانه وأنت فرد، مطلوب منك إتيانه وأنت مدافع عن الدولة.»
ترون من ذلك أن للأفراد أدبا جاءت به قوانين الاجتماع داخل كل بلد، فأين أدب السياسة والسياسيين، وإلى أي شيء مرده، إلى محكمة الضمير وقد جرى العرف على أن السياسة لا ضمير لها، أم إلى محكمة القانون العام وليس للسياسة الدولية محكمة إلا الحرب، قال برتملي سانتهلير لمناسبة نداء كنت:
لقد أعلن كنت هذه المبادئ القديمة منذ ستين عاما، ولكننا على رغم ما قطعت الأفكار العامة من مراحل التقدم في هذه المدة، ما أبعدنا إلى الآن عن الغرض الذي ترمي إليه حكمة الفيلسوف، والظاهر أن الملوك والأمم لم تتلق بعد دروسا قاسية.
نظن الآن أن العالم قد تلقى هذه الدروس القاسية منذ الحرب الماضية فشرع فعلا في إنشاء جمعية الأمم، ولكنها لما تنجح؛ لأنه عند تنفيذها كان الساسة قد نسوا ويلات الحرب، ورجعوا إلى أخلاق السياسة الدولية، فلم تنجح تجربتها وجاءت الحرب الحاضرة بويلاتها التي لا تطاق، تلقاء هذه التجربة القاسية صدر ميثاق الأطلنطي في أغسطس سنة 1941.
وهنا يتساءل أنصار السلام: هل إنشاء عصبة أمم جديدة خير من عصبة الأمم القديمة يمكن أن يوصل إلى الغاية النبيلة التي أشار إليها المستر إيدن بقوله: «إن غايتنا هي إنشاء نظام عالمي يحقق التقدم السلمي لجميع الشعوب.»
العقل والتجربة متفقان على أن عصبة الأمم التي لها قوة مسلحة لتنفيذ قراراتها ليس خير أداة للسلام الدائم وبالتبع للتعاون العالمي؛ لأن هذه الأداة متى كمل نظامها كانت كما يقول المستر الدس هكسلي: «كأنها عصبة مؤلفة للحرب لا للسلام.» والواقع أن العنف يولد العنف، ومع ذلك ليس أمام العمليين من أنصار السلام وسيلة سواها في الحال الراهنة.
غير أن هذه الوسيلة لا توصل إلى الغاية إلا إذا اقترن بها أبطال الاستعمار بجميع أسمائه وألوانه، على هذا الوضع يمكن أن تستل من نفوس الأمم الصغيرة تلك الأحقاد التي ولدها استعلاء قوم على قوم، وذلك هو أفسد ما يكون للأخلاق التي ينبغي أن تتخلق بها الأمم لتحقيق تعاون عالمي، وفي هذه الحالة الشعوب التي لا تستطيع أن تقوم بنفسها لا تتبع إدارة النظام العالمي الذي أشار إليه وزير الخارجية البريطانية تأخذ هذه الإدارة بيدها حتى تستكمل مشخصات الأمم التي تستطيع أن تكون عضوا مستقلا نافعا في التعاون العالمي. (4) يجب القضاء على الاستعمار
ما دام غرض التعاون العالمي هو القضاء على نظرية حق الأقوى مع فسادها في نظر المنطق القانوني، وما دام الاستعمار هو أظهر آثار حق الأقوى، فلا بد للتعاون العالمي من القضاء عليه بجميع أسمائه.
كما أن الفلسفات القديمة لم تتعرض لفكرة السلام الدائم كما ذكرت آنفا، كذلك هي لم تتعرض لفكرة استنكار الاستعمار، وأول من تعرض لها من الفلاسفة على وجه بين هو الفيلسوف بنتام؛ فإنه هو وأنصار مذهبه يبغضون الاستعمار ويرونه غير نافع للأمم المستعمرة، فوق أنه مفسد لأخلاق الأمم المستعمرة، قال برتران رسل: «إذ كانت الثورة الفرنسية في الصميم من أمرها، كتب بنتام رسالة إلى تالران عنوانها «حرروا مستعمراتكم»، ولم يكن ذلك رأيه في المستعمرات الفرنسية فحسب، بل رأيه كذلك في المستعمرات البريطانية، وأنه حمل صديقه اللورد لندون على اعتناق مذهبه فقال في مجلس اللوردات في سنة 1797: لا يمكن أن يسدى إلى إسبانيا خير؛ أفضل من تخليصها من لعنة مستعمراتها.»
Bog aan la aqoon