ولما بلغت الرابعة من عمري أدخلني كتاب القرية، وكانت صاحبته سيدة تدعى «الشيخة فاطمة»، فمكثت فيه ست سنوات تعلمت فيها القراءة والكتابة، وحفظت القرآن كله، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا، وإلى هذه السيدة يرجع فضل تنشئتي الأولى في تلك السنين.
ضرب العمد والأعيان
وقد كنت في العاشرة حينما أتممت حفظ القرآن في هذا الكتاب، فاشترى لي والدي «مهرة» من بادية الشام لم تألف رؤية قطار السكة الحديدية، فكنت أركبها للنزهة ولقضاء بعض الأعمال، وقد نصحني والدي بالابتعاد عن السكة الحديدية حتى لا يمسسني مكروه، وذات يوم امتطيت المهرة وذهبت إلى عزبة لنا في «طرانيس العرب»، وفاتني أن أعمل بنصيحة والدي، فسرت بها على طريق السكة الحديدية، وبينما أنا سائر بها؛ إذ فاجأني القطار فوثبت من فوقها وتركتها وحدها فجرت مسرعة حتى عادت إلى برقين، فذعر أهلي، وهاجت القرية، وظن الجميع أني أصبت بمكروه، وكنت وقتئذ وحيد والدي، فزاد ذلك من اهتمامهم وقلقهم، وما كاد القطار يقترب منهم حتى رأوا السائق يشير إليهم بمنديل أبيض، فاطمأن بالهم، ثم أخبرهم السائق بما فعلت، فبعثوا إلي بحمار عدت عليه إلى بلدتي، غير أني خشيت أن يعاقبني والدي، فهربت خوفا من «علقة» تصيبني، وجاء رجل من أهل القرية يدعى «عوض بدران» يهنئه بسلامتي ويقول له: «بركة عيشك يا بو علي»، وهو يعني «الحمد لله على السلامة»!
وجيء بي إلى والدي وأنا خائف أترقب، ولكنه - كعادته معي رحمه الله - ربت على كتفي قائلا: «لا تخالف أمري يا ولدي، ولا تسر مرة أخرى على السكة الحديد.» فأثر ذلك في نفسي، وازددت إعجابا به وحبا له.
وعلى ذكر «العلقة»، أذكر أن الضرب في ذلك الزمان كان مباحا، حتى ضرب العمد والأعيان! وكان هذا بعض ما يحدث في القرى المصرية من القسوة والاستبداد ، وقد رأيت بنفسي غير مرة؛ إذ كان لوالدي صديق يدعى أحمد كامل بك، وكان مفتش «تفنيش شاوى»، فكنت - وأنا بمدرسة المنصورة - أذهب إلى بيته يوم الجمعة، فأرى حوش التفنيش مرشوشا، والبيك المفتش قاعدا في صدره وقد وقف اثنان من «القواسة» يحملان الكرباج و«الفلقة» لضرب العمد الذين يتأخر أهالي قراهم في دفع الإيجار، وكانت هذه طريقتهم في ذلك الحين، فانظر كيف كانت الحال بالأمس، وكيف هي اليوم!
نوبار باشا: مسلم!
بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم رغب والدي في أن يبعثني للدراسة في الأزهر، وصادف في ذلك الوقت أن جاء يتغدى عندنا إبراهيم باشا أدهم - مدير الدقهلية سابقا - فدخلت لتحيته، فسأل والدي إلى أين يبعث بي للدراسة، فأجاب: «إلى الأزهر الشريف إن شاء الله»، فأشار عليه أن يبعث بي إلى مدرسة المنصورة الابتدائية، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة في الدقهلية كلها، وقد عين المرحوم أمين سامي باشا ناظرا لها، وكان معروفا بالدقة والنظام والشدة وعدم التسامح في أي تقصير يبدو من أحد التلاميذ، ومع ذلك فقد كنا نحبه ونحترمه ونشعر بأبوته الرحيمة، وكان بالمدرسة قسم داخلي، فالتحقت بالسنة الثانية بامتحان؛ لأني كنت - عدا حفظي للقرآن الكريم - أعرف قواعد الحساب الأربعة، و«سورة الفدان» من صراف بلدنا «المعلم حنين» وكان يلبس جبة وقفطانا.
وأذكر على سبيل الفكاهة أن أحدهم سأله يوما عن رئيس الوزارة نوبار باشا، فقال له: «قول لي يا معلم حنين، نوبار باشا مسلم؟»
فأجابه خبثا أو بسلامة نية: «نعم، مسلم وموحد بالله»! (2) العدس والفول فقط!
وكانت سنة 1882م حينما التحقت بمدرسة المنصورة الابتدائية، ولما اختطلت بزملائي التلاميذ شعرت بعد أيام بشيء من القلق؛ لأنهم كانوا يضحكون مني حينما أنطق القاف جافا كأهل بلدتي! هذا إلى أن الضرب والحبس في «الزنزانة» كانا من أنواع العقاب في هذه المدرسة، وقد رأيت في الأيام الأولى تلميذا وضعت رجلاه في الحديد؛ لأنه ارتكب ذنبا، وكانت روح الجندية هي السائدة على نظام المدارس في ذلك الحين، وكنا نخرج كل يوم جمعة «طوابير» نطوف في شوارع المدينة ثم نعود إلى عنابرنا، وكانت عيشة المدرسة عيشة شظف وخشونة، وقد كانوا في وجبة الفطور يقدمون لكل تلميذ رغيفا فقط، وعليه أن يشتري من جيبه الخاص ما يأتدم به من جبن أو حلاوة، وكان العدس أو الفول هو وجبة الغداء والعشاء، وفي بعض أيام الأسبوع يقدمون لنا شيئا من اللحم والفاكهة.
Bog aan la aqoon