آنست منهم أنهم يعلمون جيدا أنهم ما جاءوا باريس إلا لينقلوا العلم إلى القاهرة، وما تغربوا عن أوطانهم إلا ليشرفوها ويجعلوها قوية محترمة، لمحت في وجوههم آمالا كبارا من حيث نشر العلم في مصر وزرع المبادئ العالية في بقاعها الخصبة، وأقل همومهم فيما يحاولون المسألة السياسية، لذلك عجبت من مقدار جهل حكامنا في ذلك الزمان بسير هؤلاء الطلبة الراشدين، وكيف كانوا يظنون أن طلب العلم بباريس بركان الهياج والقلاقل، وما هو إلا خير ونور وسلام! (3) الإنجليز في بلادهم
سافرت إلى لندرة وأنا لا أعرف من الإنجليزية ما يكفي لاستبقاء أبسط الأحاديث موضوعا، ولكني مع ذلك كنت معتمدا على أن اللغة الفرنسية معروفة هناك في كثير من الطبقات؛ خصوصا طبقة الكتاب والطبقة التي لا غنى للسائح عن محادثتها، فإن أمثالهم في الفنادق الكبرى يتكلمون لغتين أو ثلاثا؛ إحداها الفرنسية، وكان يذهب عني الحيرة بعد ذلك أن لي في لندرة وغيرها من المدن الإنجليزية أصدقاء من المصريين.
فلما كنا في كاليه الميناء الفرنسية انقلبت الحال فجأة حتى إن الحالمين الفرنسيين أخذوا يخاطبوننا باللغة الإنجليزية، وكانت الفرنسية قد غسلت من الوجود على شاطئ المانش، فشق ذلك على رجل فرنسي كان معي في العربة، وقد قال للحمال الذي بادرنا بالإنجليزية: «نحن نعرف من الفرنسية ما يكفينا للحديث عند الضرورة!» قالها ساخرا معنفا هذا الحمال الذي يعدل عن لغته لغير ضرورة، فانقلب الحمال بفضل هذه الجملة فرنسيا يفهمنا ونفهمه!
وقد ذكرني ذلك ببعض المصريين الذين يتكلمون الفرنسية أو الإنجليزية بينهم في بلادهم وما هم بذلك بمحتقري لغتهم، ولكنهم يتراطنون باللغة الأجنبية حتى يظنهم سامعهم أنهم قليلو الاعتداد بلغتهم وقوميتهم.
أنانية الإنجليز
فرغنا من الحمال بهذه الملاحظة، ودخلنا السفينة التي تجوز بنا المانش إلى دوفر، فأذكر أنني رأيت في الركب رجلا هنديا يجتنب الناس، ويقترب مني، وكان كلانا يشعر بجاذبية نحو الآخر، ولم يكن في المركب من اللون الأسمر سوانا، وكفى بالتقارب في اللون، وبالشرقية جامعا بيننا نحن الاثنين، وكانت حادثة الشاب الهندي «دنجرا» الذي قتل السير كورزون في لندرة جديدة العهد وقتذاك، فوقع في نفسي أني سأشارك جاري الهندي في استقبال النظر الشزر من الإنجليز الذين اشتهروا في العالم بأنانيتهم حتى اضطر حكيمهم «هوبز» إلى أن يقول: إن أصل الخير والشر في هذا العالم هو حب الذات، وإنه هو أساس علم الأخلاق عنده، كما اشتهروا بالتضامن الشديد وحبهم لكبار رجالهم مثل السير كورزون القتيل.
عولت على ألا أبعد عن جاري الهندي وقلت في نفسي: «إن عادة المصري أن يكون ضحية لغيره، وما كانت بلادنا أيضا إلا ضحية يضحى بها على مصالحة القوي!» للإنجليز مصلحة في أقرب طريق إلى الهند، فماذا جنت مصر حتى تكون هي الضحية لتلك المصلحة؛ فقد قال أحد ساستهم يوم فتح قناة السويس: «الآن لزم احتلال مصر.»
وقد كان ... وعلى هذا القياس كان أمر بلادنا الجميلة الخصبة في التاريخ القديم، لما ذكرت ذلك أني من قوم هم ضحايا الكرم والصبر، توقعت أن يضايقني الإنجليز بصفتي هنديا مع صاحبي الهندي، ولكن لم يكن مما توقعت شيء، فلم أر أحدا بان عليه أثر لما قد ظننت من تأففهم لرؤية الهندي، فأكبرت أخلاقهم، غير أني لما خرجت بعد ذلك إلى البر، وكان يوم المرافعة في قضية الهندي صرت أسمع نقلا عن المجالس صحة ما كنت أظن، فإن الهنود كانوا مضايقين من البوليس السري، وإن كثيرا من الإنجليز كانوا يكررون ما قاله بعض كبرائهم أن طرائق التربية الغربية - تربية الحرية والعلم - مفسدة للشرقيين، وأنه لا بد لصلاحهم (يعنون بالصلاح: رضاهم عن حكم الغربي فيهم وتسلطة على بلادهم) تركهم على ما هم عليه، فإن ذلك خير طريق لسعادتهم أو (دوام استعمار الأوربيين لبلادهم).
أمة صنعت مجدها
وجست خلال إنجلترا، وكان أطول ما قطعت مسافة من لندرة إلى ليفربول، يمر القطار فيها بقرى ومدائن لا يدل منظرها على حب الشذوذ، ولا على الابتكار الذي أخذ من فكرة الأوربيين مأخذا عظيما حتى صار مقياسا لشخصية الفرد وعلامة على النبوغ، فإن الكاتب الذي لا يولد لغته أسلوبا جديدا لا يعد كاتبا، وكذلك الشاعر الذي لا يأخذ خياله من الطبيعة أفكارا حديثة ومقاصد أبكارا لا يعد شاعرا عاديا، كذلك لا يلفت النظر إلى شيء إلا غرابته وجدته، ولكن على الرغم من ذلك رأيت المدن والقرى الإنجليزية وقتئذ متشابهة جدا في تخطيط الشوارع وارتفاع الأبنية وألوانها حتى كان يخيل للرائي أنها بنيت على فكرة المحافظة، أو في حكومة المحافظين، على أن الفرد الإنجليزي في فكره وعمله مبتكر طبعا أو كما يسميه أوربيو القارة «أوريجينال».
Bog aan la aqoon