Sheekada Nolosha
قصة حياة
Noocyada
وغريب أن أنسى الأصل وأذكر الهوامش!
فهذه حادثة تريك كيف يكون من المستحيل على أن أعشق، لأنى أنسى كل حب، بل كل عاطفة، لا يزيد عمرها على أربع وعشرين ساعة، على الأكثر، ثم تنطوى.
وأعود إلى السؤال الذى بدأت به هذا الفصل، فأقول: إنى لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها، ولا فترت عنها، بل أنا أطلب لها، وأقوى رغبة فيها مما كنت فى أى عهد مضى، ولست آنس من نفسى عجزا عن مسايرة الدنيا، أو الناس، فإن الأمر على النقيض، وأحسب أن الرغبة فى الحياة تقوى مع ارتفاع السن وقلما يلتفت الشاب إلى الحياة وطولها أو قصرها، أو يفكر فى أنها إلى زوال، لأن ما يحسه من فيض الحيوية لا يجعل له بالا إلى شىء من ذلك، ولأنه يكون مشغولا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة عن كل أمر أو حال آخر، فهمه أن يريح نفسه من ثقل الضغط، وأن يفتح «البوابات» كلها لينحدر منها ويخرج ما يجاوز طاقته، ويزيد على قدرته على احتمال ضغطه ثم ينقضى الشباب فيسلس التدفق وتخف وطأته ويزداد شح المعين على الأيام، فيتسنى للمرء أن يفكر بعقله وينظر بقلبه وأن يدير عينه فى الماضى، والحاضر، وأن يمد بصره فى المستقبل ويرى أنه يدلف إلى النهاية، فيفرق ويشفق وقد يجزع.
وتحدثه نفسه أن النهاية قد تكون أدنى إليه مما يرجو فيشتهى أن يفوز فيما بقى له من العمر. بأضعاف أضعاف ما فاز به فيما مضى وانقضى ويطلب أن ينعم أعظم نعم فى أوجز وقت لأنه من يدرى؟ قد لا يطول العمر. وقد يتخونه الموت. وهبه طال فقد لا تبقى الصحة. وما خير حياة بلا صحة ولا قدرة على العمل والاستمتاع؟
فهو لهذا يقبل على الحياة، لم يكن يفعل فى شبابه، لأنه كان مغترا بالعباب الزاخر فى شبابه، ومفتونا به، ومصروفا، عن التأمل والتدبر، أما فى الكهولة فلماذا يغتر؟ وماذا يتوقع، وهو يحس النضوب يوما بعد يوم؟ ومن أجل هذا يخطئ من يتوهم أن الشباب هو وحده سن الإقبال على الحياة. فما ينقطع أو يفتر الإقبال، ولكن المرء فى صغره يركب الحياة بالجهل، أما فى الكهولة فإنه يركبها بالإرادة. وهو فى شبابه يكون محمولا على متن تيار لا يستطيع أن يقاومه أو يصده، وفى كهولته يكون كراكب السفينة المطاوعة، يمخر بها إلى حيث يبغى، وقد صارت فى عونه تجربته، وسكون التيار. كذلك يخطئ من يحسب الكهولة أضأل استمتاعا بالحياة، فإنها أدرى بالمتعة، وأحس بها، وأفطن لها، وأعرف بوجوهها، وأخبر بالوسيلة إليها.
كلا، لست أنشد الاعتزال لشىء من هذا الذى سأل عنه بعضهم، بل لأسباب أخرى أعمق، أحاول أن أجلوها، وأرانى كلما عالجت ذلك أذهل عنها، أو أستطرد، أو أغرق خطر أنها فى بحر من الذكريات والتأملات.
الفصل التاسع عشر
قلت إن من الخطأ أن يتصور أحد أن الشباب أشد إقبالا على الحياة، وطلبا لها ورغبة فيها، أو أن الكهل أقل تشبثا بالحياة أو أكثر فضيلة أو آثر لها وللعفة والزهادة في سيرته. وقد أثار هذا القول اعتراض بعض الإخوان، فأنشأوا يجادلوننى فيه، فكان مما قلته لهم إنكم لا تواجهون الحقائق بل تهربون منها، وتشيحون بوجوهكم عنها، لأنكم ترون هذا أكرم لكم وأبعث على توقيركم، أو أنتم تجهلون نفوسكم، أو تغالطونها أو لا أدرى ماذا غير هذا وقد كنت شابا كما كنتم؟ ولعل الفرق بينى وبينكم أنى كنت - وما زلت - مغرى بإدارة عينى فى نفسى، والغوص فى لجتها على ما عسى أن يكون فيها من طيب وخبيث، وأنى لا أحب أن أسمى الأشياء أحسن أسمائها بل أسماءها الحقيقية، وأنى قد أغالط الناس، وأخدعهم ولكنى أصدق نفسى. وليس أحلى عندى وأمتع ولا أوقع وأروع، من أن أتناول نفسى، كله، تيسرت لى الخلوة بها، وأحطها على كرسى أمامى، وأتدبرها، وأجيل فيها عينى، وأفحصها وأجسها، وأسبر أغوارها، وأمتحن نزعاتها وبواعثها، وألتمس المصادر الأولى لأهوائها فى أعماقها، وإصلاحها بحقيقة ما أرى وأعتقد، بلا تلعثم، أو مصانعة، أو مغالطة، وعسى أن يكون هذا مدعاة للإسراف والشطط ولعله يحمل على التجنى، ولكنه خير عندى من المغالطة على كل حال.
والقول بأن الإنسان يركب الحياة بشبابه غلط، والصواب أنها هى التى تركبه فى شبابه تركض به من غير أن يكون له رأى أو إرادة، ومن غير أن تدع له فرصة للراحة والاستمتاع، وما يركب الحياة بالرأى والإرادة إلا الكهل على خلاف المظنون والشائع. أو هذا - على الأقل - ما بلوته من نفسي، وعرفته وأيقنت أنه الصحيح.
كنت شابا. فكيف كانت حياتى؟ وكيف كان الشعور بها؟ أرد عينى إلى هذا الماضى وأحدق، وأستشف، وأستجلى، وأستوضح.
Bog aan la aqoon