Sheekada Nolosha
قصة حياة
Noocyada
ودأب الناس فى زماننا أن يترفقوا بالأبناء ويجنبوهم التنغيص، وهذا جميل ولكنى أحس أنهم يبالغون فى الرفق ويسرفون فى اللين، ويجعلون حياة الطفل أرغد مما ينبغى وأخلى من المشاكل والعقد، ومن كل ما يستدعى إجهاد الفكر أو مايستثير الشعور ويوقظ النفس، فليتهم يضربون أحيانا - برفق أيضا - ولا بأس من أن يخرجوهم إلى العناد ويدفعوهم إلى التمرد، ليعرفوهم بأنفسهم ويكتشفوا لهم عن بعض خفاياها.
جرى هذا ببالى وأنا أكلم شابا فى الثانية والعشرين من عمره، ولم أكن أعرف ماذا تعلم أو يتعلم وكان كلامنا فى شىء من الهندسة فوافقنى على رأى كان يعرف - كما تبينت فيما بعد - أنه خطأ محض فقد كان طالبا فى مدرسة الهندسة وكان فنه ما خضنا فيه، ومع ذلك لم يخالفنى، ولم يصحح لى غلطى فإذا كان هذا لا يضرب حتى يدمى جلده ويتسلخ ليتعلم احترام النفس وليفهم أن المخالفة ليست عيبا وأنها ليست من سوء الأدب بل من الواجب ما دام يعتقد أنه على حق - فمن غيره الجدير بالضرب؟ وكيف تكافح هذه النعومة وذاك التطرى لتجعل من ابنك رجلا يعرف قدر نفسه ويكرم عقله؟ أما أنا فسبيلى كسبيل أبى، ولست أستعين «بالزبالين» ولا أنا أقسو قسوته، ولكنى لا أحجم عن قرص آذانهم ولكمهم إذا رأيتهم يجبنون أو يكذبون أو يبكون الغير «ما يبكى الرجل» وقد جاءنى واحد منهم وقال إن تلميذا معه فى المدرسة ضربه، فسألته عنه أهو أكبر منه.. وهل هو أضعف من أن يضربه كما ضربه.. فكانت نعم هى جواب السؤالين، فتناولت أذنه الصغيرة وقرصتها قرصا وجيعا وقلت له «ألم يكن فى الشارع حجر تتناوله وتقذفه به فتفتح له قرنه..» قال «بلى» قلت «لماذا تجيئنى باكيا وفى وسعك أن تنصف نفسك منه»؟ وأنذرته أنى لا محالة قاتله إذا تكرر منه ذلك، ولم يكن القتل ما أعنى، وإنما عنيت الضرب الأليف، وقد فهم عنى الطفل، وأثبت لرفاقه أنه كفء لهم، فكفوا عنه وهابوه، وقد احتجت بعد ذلك أن أجعل جرأته غير راجعة إلى مجرد الخوف منى.
أظن أن هذا خير وأهدى من هذه التربية الطرية التى تفضى إلى التخنث.
الفصل الخامس
حليمة وعم محمد
كان خادمنا رجلا يدعى «عم محمد» لا يعرف أحد من أين جاء؟ حتى ولا هو يعرف، وقد سألته من أى بلاد الدنيا هو؟ فشور بيديه وهز رأسه ولم يجب، ولعله نسى، فقد علت سنه جدا، والأرجح أنه جاء إلينا وهو صبى لا يفقه، فقد كان لكل أسرة خادمها الذى نشأ وترعرع، - وشاب أيضا - فى ظلها، ولم يكن أحد ينضو عنه ثوب هذه العمومة إلا ثلاثة: جدى وأبى، من الرجال، وجدتى من النساء أما سائر أهل البيت فكان اسمه عندهم «عم محمد» وكان هذا بعض ما يكرم به الناس خدمهم فى ذلك الزمان.
ولا أذكر كيف كان وجهه فى حداثتى، فإن مسافة الزمن بعيدة، ولكنى أنظر إليه الآن - فإنه لا يزال حيا يرزق - وأرى كيف كان يمشى معتدل القامة كالسيف يأبى أن يتخذ الترام أو غيره أو يقطع المسافات بين أرجاء القاهرة إلا على رجليه، وكيف أنه لا يمرض ولا يرقد ولا يشكو شيئا حتى فى هذه الشيخوخة العالية ، وكيف أنه لا يزال يشرب «البوظة» التى أعرفه - مذ عرفته - كلفا بها لا ينصرف عنها أو يتوب - ولو قطعوا رأسه وأوصاله - فيخيل إلى أنه كان دائما هكذا - بشاربيه الخفيفين، وأسنانه القوية التى لم تسقط ولم تتزعزع منها واحدة، ووجهه المغضن الحافل بالأخاديد والحفر، وحذائه الأصفر الباهت الذى يحرص مع ذلك على صقله فيمسحه بطرف المعطف العتيق الذى خلعته عليه منذ خمسة عشر عاما، ويأبى مع ذلك أن يبلى أو يتمزق.
وكان عمله مقصورا على ساحة البيت وما فيها من غرف أو «مناظر» - كما كانت تسمى - وعلى قضاء الحاجات من السوق، ولا يجوز له أن يصعد إلى حيث السيدات فإن لهن خادمتهن التى لا ينبغى لها تجاوز السلم إلى ساحة البيت وكانت حليمة هذه فتاة سمراء واسعة العينين مقوسة الحاجبين، طويلة الأهداب وممشوقة رشيقة، وكانت هى التى تنزل إلى عم محمد إذا احتاج البيت إلى شىء فتقف على آخر درجات السلم وتنقر على الباب فيجىء إليها، فحدث ما كان لابد أن يحدث - أحبها وأحبته.
وأقبل عم محمد يوما على جدى، وهو جالس على كرسيه فى الدهليز وفى يده نبوته وشفتاه تتحركان بالتلاوة، ووقف إلى جانبه يفرك كفيه ويتحين من الشيخ التفاته إليه، فلما فعل، مال عليه وأسر إليه أنه يطلب يد «حليمة» فهش له الشيخ لأن الزواج نصف الدين، ووعد أن يخاطب أبى فى الأمر وأن يحمله على الموافقة.
وقد كان - تزوجا - وصارت حليمة، تنتقل فى الليل إلى غرفة «عم محمد» فى البدروم كما يسمى فى مصر، أو السرداب كما يسمى فى العراق.
Bog aan la aqoon