Sheekada Falsafada Casriga
قصة الفلسفة الحديثة
Noocyada
إرادة النسل:
نعم تستطيع أن تهزم عدوها الموت، بالتناسل، رغم ما يتضمن التناسل من عناء وتضحية، فكل كائن عضوي يسارع إلى تضحية نفسه من أجل التناسل إذا ما بلغ حد النضوح من العنكب الذي تلتهمه أنثاه بمجرد تلقيحه إياها، والزنبور الذي يفني حياته في جمع القوت لنسل لن يراه، إلى الإنسان الذي يتفانى في تحصيل حاجات أولاده من طعام ولباس وتربية ... فالنسل هو الغرض النهائي لكل كائن عضوي، والتناسل هو أقوى الغرائز، إذ هو الوسيلة الوحيدة التي يتسنى للإرادة بها أن تقهر الموت، ولكي تثق الإرادة بسلامتها من خطر الموت تعمدت ألا تضع إرادة النسل تحت رقابة العقل بما له من تأمل ومعرفة، فلم يكد ينجو منها أحد، حتى إنك لترى الفلاسفة أنفسهم قد انصاعوا لها وأنسلوا. «إن الإرادة لتبدو في التناسل مستقلة عن المعرفة، فهي تسير في هذا المجال سيرا أعمى، كما تعمل في الطبيعة اللاشعورية ... وبناء على هذا كانت أعضاء التناسل هي بؤرة الإرادة بعينها، وهي المركز الذي يقابله المخ الذي يمثل المعرفة من ناحية أخرى ... وأعضاء التناسل هي أساس حفظ الحياة ... لأنها تتضمن حياة لا تنتهي، ومن أجل هذا عبدها منذ القدم اليونان واليهود ... إن العلاقة بين الجنسين ... هي في الواقع النقطة المركزية الخفية لكل عمل وسلوك، وهي تتجلى في كل شيء برغم ما نحاول سترها به من الأقنعة، إنها سبب الحروب، وهي الغاية من السلام، هي أساس الجد والغاية من المزاح، وهي الينبوع الفياض بمستملح النكات، وهي مفتاح كل تلميح، ومعنى كل ما غمض من العبارات ... إننا نراها لا تني في رفع نفسها لتكون سيدة العالم سيادة وراثية حقيقية، تريد أن تتربع على عرش الآباء بفضل اكتمال قوتها، وتلقي من أوجها نظرة كلها السخرية والاستخفاف بما يتخذه الناس لها من قيود وأغلال، أو بما يعد لتحديدها على أقل تقدير، أو لمحوها إن أمكن، بل إنها لتهزأ من السيطرة عليها سيطرة تنزل بها إلى منزلة من الحياة ثانوية فرعية.»
إن فلسفة الحب لتدور حول تبعية الأب للأم، أو تبعية الوالد لولده، أو تبعية الفرد للنوع، وقانون الجاذبية الجنسية هو قبل كل شيء اختيار الأليف اختيارا لا شعوريا، بحيث يتلاءم الأليفان لإنتاج النسل. «كل يبحث عن أليفه الذي يمحو منه جوانب النقص حتى لا تورث ... فالرجل الضعيف البنية يبحث عن امرأة قوية ... وكل إنسان سيرى ما في أليفه من نواحي الكمال التي تعوزه هو جميلا، كلا بل إنه ليصف بالجمال نواحي النقص من أليفه التي تناقض نواحي نقصه هو ... إن الصفات الجسدية لأليفين تكون بحيث تحتفظ للنوع بصفاته المميزة بقدر الإمكان، ومن أجل هذا يكون الواحد منهما متمما للآخر، ولذلك تراه يرغب فيه رغبة قوية ... إن الفرد ليفقد جاذبيته للجنس الآخر بمقدار ما ابتعد عن أنسب فترات حياته للإنسال ... ولذا فللشباب جاذبيته دائما حتى وإن خلا من الجمال، ولكن لا جاذبية في جمال بغير شباب ...»
ولكن مما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أن أشقى حالات الزواج هو ما تم على أساس من الحب (ولو أنه أصلحها لبقاء النوع)، وعلة هذا أن الغرض الأسمى من الاتحاد الجنسي هو بقاء النوع لا لذة الفرد. أما أسعد زواج في رأي «شوبنهور» فهو ما يتم بإشراف آباء الزوجين، ولو أن هذا الضرب من الزواج - على ما فيه من سعادة الزوجين - أقل ملاءمة لحفظ النوع من زواج الحب، ولهذا فإن الفتاة التي تندفع وراء حبها معرضة عن نصح والديها تستحق الإعجاب؛ لأنها آثرت بطبيعتها ما هو أهم وأكثر نفعا؛ لأنها في مثل هذه الحالة تفضل واجبها نحو جنسها عن سعادة شخصها، فالحب هو أدق وسيلة لاختيار الأزواج اختيارا صالحا، بحيث يؤدي إلى أحسن النتائج، وما دام الحب خديعة تدبرها الطبيعة لأداء أغراضها، فخير الزواج ما يمحو هذه الخديعة، ولا يستطيع أن يفعل ذلك، وبعبارة أخرى لا يستطيع أن يسعد بزواجه، إلا الفيلسوف، ولكن الفلاسفة لا يتزوجون.
ومما يدل أيضا على خضوع الفرد لحاجات جنسه، وعلى أنه مجرد أداة يتخذها الجنس لاستمرار بقائه، هو أن حيوية الفرد تتوقف على حالة خلاياه التناسلية. «يجب أن تعتبر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع التي تنمو عليها حياة الفرد، فالفرد من نوعه كالورقة من الشجرة تتغذى منها وتغذوها، وهذا هو السبب في قوة الغريزة الجنسية، وفي أنها تنشأ من أعماق طبيعتنا. فإذا خصي فرد كان ذلك بمثابة قطعه من شجرة النوع التي ينمو عليها، وإذا ما انفصل من شجرته فلا بد أن يذبل ويذوي، ومن ثم تنحط قواه البدنية والعقلية، ومما يلاحظ أن خدمة الفرد للنوع - أعني قيامه بعملية التلقيح - يتبعها دائما تعب مؤقت وانحطاط في كل القوى، وقد يتبعها الموت العاجل عند معظم الحشرات، أما عند الإنسان فخمود القوى التناسلية معناه أن الفرد يدنو من الموت، والإفراط في استخدام هذه القوة في أية سن مدعاة لتقصير الحياة، والاعتدال من ناحية أخرى يزيد قوى الإنسان كلها، وبخاصة القوى العضلية، وقد روعي هذا الأساس في تدريب الرياضيين الإغريق ... وإن ذلك ليدل على أن حياة الفرد في أعماقها ليست إلا جزءا مستعارا من حياة النوع ... التناسل هو الأوج الأعلى الذي يهوي منه الفرد بعد بلوغه إياه هويا سريعا أو بطيئا، بينما الحياة الجديدة (التي أنسلها) تؤكد للطبيعة بقاء النوع، ثم هي تكرر الظاهرة بعينها ... وهكذا يكون تعاقب الموت والإنسال بمثابة نبضات القلب للنوع ... إن الموت بالنسبة إلى النوع كالنوم بالنسبة إلى الفرد ... هذا هو مذهب الطبيعة العظيم في الخلود ... إذ العالم بأسره - بكل ما فيه من ظواهر - هو تجسيد إرادة واحدة خفية ... ويقول جوته: «إن لأرواحنا طبيعة تستعصي على الفناء، وإن فاعليتها لتمتد من الأزل إلى الأبد. إنها كالشمس التي تبدو غاربة لأعيننا الأرضية، ولكنها في الحقيقة لا تغرب أبدا وتضيء بلا انقطاع.» ولقد أخذ مني «جوته» هذا التشبيه، لا أنا الذي اقتبسته منه.
نحن كلنا أجزاء من حقيقة واحدة، ولكن وجودنا في زمان ومكان يظهرنا بمظهر الكائنات المنفصلة، فالزمان والمكان هما أصل الانفصال الفردي الذي تنقسم به الحياة إلى كائنات عضوية متميزة تبدو كأنما هي أشتات متفرقة في أمكنة مختلفة، وفي فترات من الزمان متباعدة، فليس الزمان والمكان إلا نقابا وهميا يخفي عن أعيننا اتحاد الأشياء، إذ ليس في واقع الأمر إلا نوع واحد، أو قل: حياة واحدة، أو إن شئت فقل إرادة واحدة، وكنه الفلسفة هو أن «تفهمك في جلاء أن ليس الفرد إلا الظاهرة لا الشيء في ذاته»، وأن تريك «دوام الصورة الثابتة من خلال تغير المادة المتصل».
إن من لا يستطيع أن ينظر إلى الناس والأشياء جميعا وفي كل عصور التاريخ كأشباح وأوهام فليست له ملكة الفلسفة ... إن فلسفة التاريخ الصحيحة هي إدراك وجود ثابت لا يتغير ، وإن بدا كما تراه متغيرا تغيرا لا نهاية له في الحوادث المتشابكة. فهو يتابع اليوم نفس الأغراض التي كان بالأمس ينشدها إلى الأبد. فعلى فيلسوف التاريخ أن يتعرف - بناء على هذا - تلك الصفة الواحدة في كل الحوادث ... وعليه أن يرى أن الإنسانية هي في كل مكان على الرغم مما توجبه الظروف الخاصة من أوجه الخلاف في العادات والأخلاق والأزياء ... فقراءتك «لهيرودوتس» - من وجهة نظر فلسفية - تكفي لدراسة التاريخ ... في كل زمان وفي كل مكان، ورمز الطبيعة الحقيقي هو الدائرة؛ لأنها تعبر عن التكرار.»
إننا نميل إلا الاعتقاد بأن مراحل التاريخ كلها إنما كانت خطوات تمهيدية ناقصة في ذاتها، قصد بها أن تؤدي إلى عصرنا الذي نعيش فيه، ولكن هذه الفكرة بتقدم العالم خداع وضلال «لقد نطق حكماء العصور كلها قولا بعينه، وكان السوقة في العصور كلها الذين يكونون الأغلبية الساحقة متشابهين في أعمالهم وأساليبهم ... وهكذا ستستمر الحال؛ لأننا كما يقول «فولتير» سنترك الدنيا كما وجدناها في جهلها وشقائها.»
وإنا لنلمح في هذا معنى جديدا للجبرية، يقول «سبينوزا» إنه لو كان للصخرة التي تلقى في الهواء إدراك لأيقنت أنها إنما تتحرك بإرادتها الحرة. وأنا أضيف إلى قوله هذا أن الصخرة لو فعلت هذا لأصابت؛ لأن القوة التي تندفع بها الصخرة هي كالقوة التي تدفعني أنا، وإن ما يظهر في الصخرة من تماسك وجاذبية وصلابة هو في جوهره نفس ما أراه في نفسي وأسميه بالإرادة، وهو ما كانت الصخرة كذلك تسميه بالإرادة لو وهبت المعرفة، ولكن الإرادة ليست حرة لا في الصخرة ولا في الفيلسوف، نعم إن الإرادة في مجموعها - ككل متحد - حرة؛ لأنه ليس ثمة إرادة إلى جانبها تحددها، ولكن كل جزء من تلك الإرادة العامة - كل نوع على حدة، ثم كل كائن عضوي من النوع، ثم كل عضو من هذا الكائن - محدود بما يرسمه له الكل. «إن كل إنسان ليعتقد أنه حر منذ الأزل حرية كاملة، حتى في أعماله الضرورية، وهو يظن أنه في كل لحظة قادر أن يبدأ ضربا جديدا من الحياة، وليس معنى ذلك إلا أنه يستطيع أن يكون شخصا آخر، ولكن التجربة سرعان ما تعلمه أنه ليس حرا، وأنه خاضع للضرورة، وأنه لا يتسنى له أن يغير من سلوكه على الرغم من كل ماله من عزم وتأمل، وأنه لا بد له - من بدء حياته إلى نهايتها - أن ينفذ نفس الأخلاق التي قد ينفدها هو نفسه، وأن يلعب الدور الذي أسند إليه حتى ختامه.» (5) العالم شر
ولكن إذا كان العالم في جوهره عبارة عن إرادة كما بينا، فلا بد أن يكون مليئا بألوان الشقاء والعناء. (1) فهو عالم شر وسوء؛ لأن الإرادة معناها الحاجة، وهي دائما تتطلع إلى أكثر مما تظفر به، فإذا تحققت لك رغبة وجدت إلى جانبها عشر رغبات قد أعوزها التحقق؛ إذ الرغبة لا نهائية لا يحدها شيء، أما بلوغها وتحققها فمحدودان، فإذا بلغت مأربا أو حققت رغبة فما ذاك إلا «كالحسنة نقذف بها إلى الفقير، فتحفظ حياته اليوم لكي يمتد شقاؤه إلى الغد ... إنه ما دام إدراكنا مغمورا بإرادتنا، وما دمنا خاضعين لمزدحم الرغبات بآمالها ومخاوفها التي لا تنقطع، ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشيء أو ذاك، فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة أو في سلام دائم.» هذا فضلا عن أن بلوغ الأمل لا يستتبع القناعة والرضا، فليس أقتل للمثل الأعلى من تحققه، «وإن العاطفة الراضية القانعة تؤدي إلى السعادة؛ لأن حاجاتها كثيرا ما تتعارض مع المصلحة الشخصية لصاحب تلك العاطفة حتى ينتهي الأمر إلى سحق تلك المصلحة.» وإن كل فرد ليحمل في طوية نفسه عوامل شقائه؛ لأنه إذا تحققت له رغبة فإنها لا بد أن تستتبع رغبة جديدة تريد التحقق. وهكذا تتسلسل الرغبات إلى ما لا نهاية، «وعلة هذا هي أن الإرادة لا بد أن تعيش على نفسها؛ لأنه ليس ثمة شيء سواها، وهي إرادة أبدا جائعة.» «إن في كل فرد حوضا من الألم لا محيص له عنه ... وهو حوض يستحيل أن يظل فارغا كما أنه لا يمكن أن يسع أكثر مما يملؤه ... فإذا ما أزيح عن صدورنا عناء جسيم مضن ... حل مكانه على الفور عناء آخر، ولقد كانت مادة هذا العناء موجودة فعلا، ولكن منعها أن تجد سبيلها إلى الشعور بها أن لم يكن هنالك من القوى ما يفرغ لها ... أما الآن وقد خلا لها مكان، فإنها تندفع وتتبوأ مكانها.» (2) وهو أيضا عالم شر وسوء؛ لأن الألم هو دافعه الأساسي وحقيقته الجوهرية، وليست اللذة إلا امتناعا سلبيا للألم، ولقد أصاب «أرسطو» إذ قال: إنه لا ينبغي للحكيم أن ينشد اللذة، وحسبه أن يتخلص من الألم والشقاء. «إن كل ما يقنع الناس أو ما يسمونه عادة بالسعادة سلبي في حقيقته وجوهره ... فنحن لا نشعر تمام الشعور بما لدينا من أسباب النعيم ولا نحمدها، بل ننظر إليها باعتبارها شيئا طبيعيا لا أكثر؛ وذلك لأنها لا تنفعنا إلا على نحو سلبي فقط، بأن تقف أسباب العذاب، لا ندرك قيمتها إلا إذا فقدناها؛ لأن الحاجة والحرمان والأسى هي الجانب الإيجابي الذي يتصل بنا اتصالا مباشرا، ماذا دفع الكلبيين إلى نبذ اللذة في كل صورها إن لم يكن الألم في واقع الأمر دائما يمتزج باللذة بمقدار يكثر أو يقل؟ ...» (3) والحياة شر وسوء؛ لأنه «لا تكاد الحاجة والألم يسمحان للإنسان بشيء من الراحة حتى يشعر بالسآمة على الفور، بحيث لا يكون له غنى عن التسلية.» أعني مزيدا من الألم. وحتى لو ظفرنا للإنسان بالمدينة الفاضلة، فإنه لا بد أن يتبقى من الشرور ما لا يحصيه العد؛ لأن بعضها - كالجهاد مثلا - جوهري للحياة، وإذا نحن محونا كل شر، وامتنع الجهاد امتناعا تاما أصبحت السآمة عبئا غير محتمل كالألم سواء بسواء، ولهذا ترى «الحياة تتأرجح كالبندول إلى الأمام والخلف بين الألم والسأم ... إن الإنسان بعد أن كون من آلامه وعذابه فكرة الجحيم، رأى أن يبقى لديه شيء يكون منه الجنة إلا الملل.» والواقع أننا كلما ازددنا في الحياة نجاحا ازددنا ضجرا ومللا. (4) والحياة شر؛ لأنه كلما علا الكائن العضوي في سلم الارتقاء، وارتفع ازداد ما يعانيه من ألم، وإن زيادة معرفته لا تحل من الإشكال شيئا؛ «لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالا ازداد العناء ظهورا ووضوحا. ففي النبات لا يكون قد تم الإحساس بعد، ولذا فلا ألم، ثم يعاني أحط أنواع الحيوان مقدارا يسيرا جدا من الألم ... وحتى في الحشرات تكون قابلية الشعور والألم لا تزال محدودة، وأول ما تظهر تلك القابلية بدرجة عظيمة حينما يكمل تكوين الجهاز العصبي للحيوانات آكلة العشب، ثم تزداد باطراد كلما نما العقل. وهكذا يزداد الألم كلما ارتفع الإدراك، أي بمقدار اقتراب المعرفة من الدقة، حتى يصل إلى ذروته العليا في الإنسان، ثم يزداد ما يحسه الإنسان من ألم كلما دقت معرفته واشتد ذكاؤه، ولذا كان أشد بنى الإنسان معاناة للألم هو العبقري الموهوب.»
Bog aan la aqoon