Sheekada Falsafada Casriga
قصة الفلسفة الحديثة
Noocyada
أن يكون ثمة شخص يعادل بينهما من آن إلى آن، بحيث يوفق بين زمنيهما. (3)
أو قد تكون الساعتان صنعتا في دقة تامة يستحيل معها الخطأ.
فأما الفرض الأول فمردود؛ لأن العقل والجسم لا يؤثر فيهما مؤثر بعينه في وقت واحد. وأما الفرض الثاني فمردود كذلك؛ لأنه يفرض تدخلا مستمرا في علاقة العقل والجسم. وأما ثالث الفروض فهو ما يراه «ليبنتز» جديرا بعظمة الخالق وكامل قدرته، أي أن كل شطر يسير في طريقه الخاصة، فلا يكون بين الشطرين اختلال أو اضطراب. وهذا التآلف موجود منذ الأزل، وهو ما يسميه بنظرية التناسق الأزلي.
ولكن إذا كانت كل ذرة مغلقة في حدودها الخاصة، لا تستطيع أن تطل على العالم الخارجي، كما يستحيل أن ينفذ إلى داخلها شيء من العالم الخارجي، فكيف نعلل إدراكنا لله، بل إدراكنا لكل ما يحيط بنا من أشياء؟ أليس الإدراك ضربا من ضروب الاتصال، أو هو كل الاتصال؟ كيف يستطيع كائن أن يصل إلى معرفة الله والعالم إذا لم يكن في مقدوره أن يحطم حدود فرديته؟ هذا تناقض ولا ريب، وأغلب الظن أن «ليبنتز» قد لحظه عند حديثه عن علاقة الإنسان بالله، فأنقذ الموقف بأن زعم أن الروح الإنساني لا يقف عند حد تصوير الكون، وتمثيله في شخصه، كما هي الحال في سائر الكائنات، ولكن له فوق ذلك مقدرة على إدراك الله وتقليده، ثم معرفة أجزاء العالم عن طريقه؛ لأنه يعتقد أن الله جل شأنه هو الذرة السامية الكاملة، وهي أساس الذرات جميعا، منها تنبثق، كما ترسل الشمس ضوءها، فإذا ما أرادت ذرة أن تتصل بأخرى، كان لزاما عليها أن تتصل أولا بذلك الأساس؛ لأنه بمثابة المركز الذي تتفرع منه الطرق جميعا. (3)
نظرية المعرفة:
من أين جاءت إلى الإنسان هذه المعلومات التي تملأ شعاب ذهنه؟ أما «لوك» فرأيه في ذلك معروف، وهو أن كل معلوماتنا إنما جاءت عن طريق الحواس، فأثرت في صفحة الذهن التي برزت إلى هذا العالم نقية بيضاء، لا تشوبها شائبة، وأما «ديكارت» فيزعم أن الطفل يولد مزودا ببعض الآراء الفطرية التي لا يمكن أن يحصلها بالتجربة. طرفان متناقضان من الرأي، كتب لهما أن ينتهيا إلى «ليبنتز» الذي لا يعجز عن جمع المتناقضات في وحدة متسقة، فقد عهدناه يوفق بين الآراء المتضاربة، ولا يدخر في هذه السبيل جهدا. وقد رأيناه في نظرية الذرات الروحية يوفق بين مذهبي «التعدد» و«الواحدية»، وها هو ذا يزيل ما بين «لوك» و«ديكارت» من خلاف في نظرية المعرفة، فهو من ناحية ينكر على «لوك» رأيه في انعدام الآراء الفطرية، ويرى أن للعقل أساسا من المعلومات يستحيل أن يحصل بدونه شيئا من المعرفة، فهو يولد حاملا بين طياته معرفة كامنة بالقوة، وهذه لا تصل إلى درجة الشعور إلا إذا أيقظتها التجارب التي تنفذ إليها عن طريق الحواس، فليس من شك في أن الطفل يولد مزودا بميل إلى استطلاع الحقيقة قبل أن يصادف في حياته أية تجربة، ويكفي أن تكون لديه تلك القوة العقلية وحدها ليجوز لنا القول بأن له معرفة فطرية. وإذن فيجب أن نكمل نظرية «لوك» التي يلخصها في هذه العبارة: «ليس ثمة في العقل من أثر إلا ما تبعثه الحواس.» بأن نضيف إليها هذا التعديل: «... إلا العقل نفسه.» كذلك ينقض «ليبنتز» رأي ديكارت في الآراء الفطرية فلا يذهب معه إلى أن المعرفة التي تولد مع الطفل تكون عند الولادة محددة واضحة، إنما يعتقد «ليبنتز» أن تلك المعرفة تكون بادئ الأمر سابحة في اللاشعور، وتظل غامضة مهوشة حتى تدركها التجربة، فتوقظها من مكامنها. وتزيل ما يغشاها من غموض، بما تنشره على معالمها من ضوء، فحياة العقل عبارة عن تقدم مطرد مستمر من إدراك مهوش مضطرب إلى إدراك دقيق محدود، شأنه في ذلك شأن كل ذرة في الكون حياتها انتقال من الغموض إلى الوضوح في الإدراك.
من ذلك نرى أنه وافق ديكارت على وجود الآراء الفطرية، بل لم يرضه أن يقف عند الحد الذي وقف عنده «ديكارت» من أن بعض الآراء دون بعضها الآخر تولد مع الطفل، ثم تحصل الحواس بقيتها، فادعى هو أن جميع الآراء تولد فطرية ولا يستحدث منها في الحياة شيء، كما وافق «لوك» على أن التجارب التي تنفذ إلى العقل عن طريق الحواس لها كل الأثر في تكوين المعرفة. والفرق بينهما هو أن «ليبنتز» لا يرى أن هذه المعرفة قد استحدثت، بل انتقلت من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل، أو قل انتقلت من حالة الخمود إلى اليقظة والنشاط،. وهكذا استطاع «ليبنتز» أن يقرب وجهتي النظر إلى حد الاندماج. (4)
الله والعالم:
كان «ليبنتز» مؤمنا شديد الإيمان يصدر عن عقيدة سليمة، فهو يرى لزاما عليه أن يدفع ما تنطلق به بعض الألسنة من اتهام العالم بالشر والنقص، وأن يثبت للناس أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن دنيانا أكمل ما يستطاع خلقه من الدنى، أليس الله علة وجود الأشياء جميعا؟ إذن فلا بد أن يكون قويا إلى أبعد حدود القوة، كاملا إلى أقصى مراتب الكمال، حكيما إلى أعمق أغوار الحكمة، خيرا إلى أوسع آماد الخير. صور لنفسك هذه الحكمة المطلقة قد تآزرت مع ذلك الخير الأسمى في خلق العالم، ثم حدثني كيف يكون؟ أليس من الطبيعي المحقق أن يجيء على أحسن ما تجيء العوالم؟ هذا حق لا ريب فيه؛ لأن الله يصدر عن منطق مستقيم يتفق مع ما له من كمال، ولا يسع ذلك المنطق الكامل إلا أن ينتج عالما أقرب ما يكون إلى الكمال «لأنه إذا أخرج عالما دون ما يستطاع إخراجه، كان في عمله ما يمكن تهذيبه وإصلاحه.»
هذا الإيمان العميق لم يصادف من «فولتير» إلا سخرية مرة، فرد على «ليبنتز» بأن تجربته في الحياة علمته أن هذا العالم - على نقيض ما وصف - أسوأ ما يمكن من العوالم، «ولو كان فيه ذرة من كمال لانمحى منه هذا البؤس الذي يزهق ألوفا من النفوس الكسيرة.» وقد هاج هذا القول من فولتير شابا مؤمنا متحمسا في إيمانه، فتصدى له وهاجمه في الصحف هجوما عنيفا، فلم يكن من الساخر العظيم إلا أن أجابه في رفق بقوله: «يسرني أن أعلم أنك أصدرت رسالة تهاجمني فيها، فقد أوليتني بذلك شرفا عظيما، ولكن أتستطيع يا سيدي أن تحدثني عما يدفع آلاف البشر إلى قطع بعضهم أعناق بعض في هذا العالم الذي تصفونه بأنه خير ما يستطاع خلقه؟ وإني لك من الشاكرين.»
Bog aan la aqoon