Sheekada Falsafada Casriga
قصة الفلسفة الحديثة
Noocyada
اتفق هذان الفيلسوفان في الغرض، ولكنهما اختلفا في الوسيلة المؤدية إليه، فبينا يذهب بيكون إلى أن المصدر الوحيد للحقائق هو ملاحظة العالم الخارجي وتجربة ظواهره، إذا بديكارت يعترف بأن يكون العقل معينا تتدفق منه المعرفة إلى جانب العالم الخارجي الذي ينتقل إلينا علمه بالحواس، وكان بذلك بيكون مؤسس الفلسفة التجريبية، كما كان ديكارت واضع الأساس لفلسفة عقلية جديدة. (1) المذهب الواقعي في إنجلترا (1-1) فرنسس بيكون
Francis Bacon
شهدت إنجلترا في القرن السادس عشر عصرا ذهبيا زاهرا بلغ أوجه في عصر الملكة إليصابات، إذ لم تكد تستكشف القارة الأمريكية حتى تحول مجرى التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فارتفع شأن الأمم المتاخمة لذلك المحيط - إسبانيا وفرنسا وهولندا وإنجلترا - وتبوأت في عالم التجارة والمال تلك المكانة الرفيعة التي كانت تنعم بها إيطاليا من قبل، حينما كانت القارة الأوروبية تتخذ منها ثغرا يبادل التجارة بينها وبين الشرق.
انتقلت التجارة من البحر الأبيض إلى المحيط الأطلسي، فانتقلت معها النهضة من فلورنسا وروما وميلان والبندقية إلى مدريد وباريس وأمستردام ولندن، ثم لم تكد تتحطم القوة البحرية الإسبانية سنة 1588م حتى تخلصت إنجلترا من أقوى منافسيها، فاتسع نطاق التجارة الإنجليزية اتساعا فسيحا، وخفقت أعلامها على متون البحار من أقصى الأرض إلى أقصاها، وأخذت مدنها تعج بالصناعة وتزخر، وبدأ ملاحوها يطوفون حول الأرض روادا كاشفين. وقد شاء الله ألا يكون نهوض الأمة الإنجليزية في عصرها الذهبي مقصورا على انتعاش التجارة، وازدهار الصناعة، وارتقاء الملاحة، بل اتسع حتى شمل الآداب التي أينعت وبلغت أقصى ذراها، وناهيك بعصر يتغنى فيه بالشعر والأدب شكسبير، ومارلو، وبن جونسون، وسبنسر، وغيرهم عشرات وعشرات من أئمة القلم وأرباب البيان.
في ذلك العصر الزاهر الزاهي، ولد فرنسس بيكون في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة 1561م في مدينة لندن، من أسرة كريمة مجيدة، فقد كان أبوه السير نكولاس بيكون يتربع في منصب من أسمى مناصب الدولة، وكان نابغا نابها ذائع الصيت واسع الشهرة، فإن يكن قد خفت اسمه فما ذاك إلا لأن ذكر ابنه قد طغى عليه، فبدده في ظلاله كما يقول ماكولي الكاتب الإنجليزي المعروف: فكأنما كانت أسرة بيكون تسير نحو العبقرية صاعدة جيلا بعد جيل، حتى بلغت الذروة في فرنسس بيكون. وكانت أمه سليلة بيت عريق، حصلت من العلم وأصول الدين قدرا محمودا، فأخذت ترضع ابنها من رحيق علمها الواسع، ولم تدخر وسعا في تنشيئه وتكوينه منذ نعومة أظفاره لتخرج منه رجلا قويا. ولما بلغت سنه الثانية عشرة أرسل إلى جامعة كامبردج، حيث لبث أعواما ثلاثة، ترك الجامعة بعدها ساخطا ناقما على مادة التدريس، وطريقته على السواء، فقد كره ذلك الجدل الفارغ العقيم الذي لا ينتهي في أغلب الحالات إلى شيء ذي غناء، وصحت منه العزيمة - وهو ذلك اليافع الصغير - ألا يدخر مجهودا في إنقاذ الفلسفة من ركودها الذي كان يدنو بها إلى جمود الموت، وصمم أن ينقل جذورها من أرض «المدرسية» الجدبة القاحلة فيغرسها في تربة أغنى وأخصب، إلى حيث تكون الفلسفة سبيلا إلى خير الإنسان وسعادته.
فرنسس بيكون.
ولكنه لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، حتى انخرط في سلك الوظائف السياسية، فعين في السفارة الإنجليزية في فرنسا، وظل عاملا بها إلى سنة 1579م إذ باغت القدر أباه فعجل بموته قبل أن ينفذ ما كان اعتزمه من توريث ابنه فرنسس ضيعة من أرضه تكفل له اليسر والثراء، فما سمع بيكون بفجيعته في أبيه حتى عاد مسرعا إلى لندن، وكان لا يزال في عامه الثامن عشر، وهنالك ألفى نفسه وحيدا بين اليتم والعدم، وهو ذلك الناعم الذي نشأ بين أحضان الترف، فعز عليه أن يروض نفسه على خشن العيش، والتمس في أعمال القضاء سبيلا للحياة ، وألح في الوقت نفسه على ذوي السلطان من أقربائه أن يهيئوا له عملا في إحدى مناصب الدولة السياسية، لعلها تزيح عن كاهله عبء الحياة الذي ثقل حتى أبهظه وأعياه.
ولكن الله قد أراد للعبقرية ألا يطول بها أمد الخمول، فما هو إلا أن أخذ بيكون يصعد إلى ذروة المجد صعودا متصلا لا يلويه عن طريقه شيء، فقد انتخب سنة 1583م عضوا في مجلس النواب، وسرعان ما جذب إليه الأنظار لبلاغته الساحرة وبيانه الخلاب، فأحبه ناخبوه حبا شديدا، وأعادوا انتخابه عنهم مرة بعد مرة. وهكذا لبث بيكون يشق لنفسه طريقا في معترك السياسة حتى كان عام 1595م فأهداه صديق له معجب بنبوغه، هو الإرل إسكس
Earl of Essex
ضيعة واسعة درت عليه ثروة طائلة عريضة هيأت له أسباب الترف والنعيم. وكانت هذه الهبة العظيمة من ذلك المحسن الكريم جديرة أن تأسر بيكون، ولكن حدث لهذا الصديق الواهب أن فترت بينه وبين الملكة إليصابات ما كان بينهما من روابط وصلات، واستحكمت بينهما الخصومة واشتد النفور، فدبر إسكس هذا مؤامرة خفية يريد بها أن يزج الملكة في ظلمات السجن، ثم يرفع إلى العرش ولي عهدها. وكاشف إسكس بيكون بما صحت عليه عزيمته، وهو لا يشك أنه إنما يكاشف صديقا محالفا سيتفانى في مظاهرته وتأييده، ولكنه لشد ما دهش حين أجابه بيكون باحتجاج صارخ على هذه الجناية الشائنة ضد مليكة البلاد، وبإنذاره أنه سيؤثر ولاءه للملكة على عرفانه للجميل.
Bog aan la aqoon