14 «وخرج الجيش مزهوا بأبطاله المدججين من أبواب أنتقيرة
15
يوم الأربعاء، فمشى جنوده ليلة بنهارها في شعاب الجبال مبالغين في إخفاء أنفسهم حتى يأخذوا العرب بغتة.
ولم يصلوا إلى الطريق الذي كانوا يقصدون العيث والإفساد فيه إلا في اليوم التالي وكان شعبا ممتدا في أملاك العرب بالقرب من ساحل بحر الروم، وفي هذا الشعب لاقوا من الأهوال والفوادح ما يعجز عنه الوصف، فساروا فيه يستحثون الخطا بين الجبال العابسة السامقة والأوعار والأخناق.
وطالما اعترض طريقهم مهاو عميقة، وأودية صلدة بعيدة الغور قليلة الماء بين صخور تريد أن تنقض، وصخور أسقطتها عواصف الخريف، فعز اجتيازها، وقد يمشون ساعات طويلة في أخاديد، أو في مجرى جاف حفره السيل بين الجبال، وغمره بالحصا والأحجار، وكانت تغطي هذه المهاوي وتلك الأخاديد قمم عزيزة المرتقى صعبة المنحدر، جعلت من هذا المكان مخبأ صالحا، كان يكمن فيه الجنود في أثناء الحروب بين العرب والمسيحيين، ثم أصبح بعد ذلك وكرا للصوص يثبون منه على المسافرين.
وعند غروب الشمس بلغ الفرسان قمة بعض الجبال، ونظروا إلى ميامينهم فرأوا عن بعد قسما من مرج مالقة الوسيم وقد ظهر من ورائه بحر الروم، فاشتد فرحهم حتى كأنهم بقية من قوم موسى، ظفروا بعد أين بنظرة إلى أرض الميعاد بعد الفرقة والشتات، وحين اعتكر الظلام وصلوا إلى بعض الأودية والدساكر التي أطبقت عليها الجبال، ويسمي العرب هذه البقعة بشرقية مالقة، وفيها كتب لآمالهم أن تخيب، ولجيشهم أن يتمزق؛ فإن العرب لما علموا بقربهم ساقوا بقرهم، وحملوا أمتعتهم، والتجئوا بزوجاتهم وأولادهم إلى قلل الجبال ومعاقلها.
واشتد غضب النصارى، وانصرفوا مسرعين طامعين في أن يقعوا في الطريق على غنم أعظم وأوفر، وأرسل الدون ألونزو آل أغيلار وغيره من القواد جنودهم، فعاثوا فيما حولهم من الأرض، ودمروا ما شاء غيظهم أن يدمروا، واستلبوا بعض البقر من زراع العرب في أثناء فرارهم، وبينما كان هذا الفريق يعيث ويدمر ويشعل النار في الدساكر فتنير الجبال، أمر صاحب سنتياغو - وكان يقود ساقة الجيش - أن يجتمع الفرسان صفوفا ليكونوا على استعداد إذا صاحت بهم صائحة.
وحاول بعض فرسان هذه الإخوة الدينية أن يهيموا في الأودية لاقتناص الغنائم، فدعاهم وزجرهم.
ثم قادهم سوء الطالع إلى شعب في الجبل تقطعه الهوات والأخاديد البعيدة العمق، وتغطيه القمم، فكان مستحيلا أن يحتفظ فيه الجيش بنظامه، وضاق مجال الخيل عن المسير فخرجت عن طوع فوارسها، وكانت تتسلق من صخرة إلى صخرة، وتنزل غورا وتصعد في نجد، وتنقل سنابكها في مكان يضيق بفرسن الوعل، وحينما مروا بإحدى القرى كشفت لهم أضواؤها ما صاروا إليه من سوء الحال، وتفاقم الخطب، ووعورة الطريق، وهنا بصر بهم العرب الذين كانوا قد سبقوهم إلى معاقلهم الممعنة في الارتفاع، ورأوا الفخ الذي سقطوا فيه، فصاحوا جذلين مستبشرين ونزلوا من حصونهم، وربضوا فوق قمم الجبال التي تشرف على الهوات التي ارتطم فيها المسيحيون، وأخذوا يصبون عليهم وابلا من السهام والأحجار.
وأطبق الليل بظلامه الدامس مرة أخرى على المسيحيين وهم محبوسون في واد ضيق يخترقه جدول عميق، وتحيط به الحبال الذاهبة في السحاب وقد اشتعلت فوقها نيران الدعوة إلى الجهاد، وبينما هم في هذه الحال من اليأس، إذا صيحات مزعجة يتردد صداها في جنبات الوادي: الزغل الزغل!! فسأل صاحب سنتياغو: ما هذه الصيحات؟! فأجابه جندي قديم: هذه صيحات الزغل قائد العرب، وهي تدل على قدومه بجيشه من مالقة، فالتفت صاحب سنتياغو إلى فرسانه وقال: فلنمت ممهدين الطريق بقلوبنا بعد أن عجزنا عن تمهيدها بسيوفنا، ولنخترق الجبال إلى الأعداء، ولأن نبيع أنفسنا هنا غالية، خير من أن نذبح مستسلمين، وما كاد يتم قولته حتى لوى عنانه وهمز فرسه متسلقا الجبل يتبعه المشاة والفرسان، وقد وقر في نفوسهم أنهم إذا لم يستطيعوا الفرار فلا أقل من أن ينالوا من أعدائهم بعض منال، وبينما هم يتسلقون إذ دهمهم من العرب سيل من السهام والحجارة، وكثيرا ما كانت الصخرة تهوي على جموعهم كالرعد القاصف فتمزقهم تمزيقا.
Bog aan la aqoon