وقد صعب على هشام المسكين أن ينزع فجاءة من عزلته في القصر بعد أن قضى فيها ثلاثين عاما سجينا مغتبطا بسجنه، فتوسل إليهم ألا يطلبوا منه المستحيل، ولكنهم أصروا على ما يطلبون، فأطاعهم على الرغم منه، غير أنه حينما ظهر للناس جميعا أن هذا الرجل الكهل كان أضعف من طفل، طلبوا إليه أن يعتزل، وأحلوا مكانه رجلا من أسرته، وكان سقوطه في الحقيقة نهاية الدولة الأموية بالأندلس.
ثم جلس على العرش خليفة بعد خليفة في مدى عشرين عاما، فكان أحدهم لعبة في أيدي القرطبيين، وآخر لعبة في أيدي الحراس من الصقالبة، وثالث لعبة في أيدي البربر، ورابع كان صورة تخفي وراءها مطامح أمير إشبيلية، ولكنهم كانوا جميعا لعبا لبعض الأحزاب، ولم يكن لهم مظهر من النفوذ، وقد شهد بهو القصر قتلا بعد قتل كلما تلا خليفة خليفة، وأخفى مرة أحد هؤلاء الخلفاء المساكين البائسين نفسه في فرن حمامه، وحينما عرف مكانه جر وذبح أمام الخليفة الجديد الذي لم يأت بعد دوره وإن كان قريبا.
ثم ألزم هشام المؤيد المسكين - الذي نشأه المنصور وأمه «صبح» في طفولة دائمة - أن يمثل دوره في صندوق الدنيا، فوضع على العرش ثم خلع، فبدل بقيده الحريري في عزلته بين الفواتن من نساء القصر حيطانا مظلمة لسجن حقيقي، ولا يعرف إلى الآن ما جرى له بعد ذلك، فنساؤه يعلن أنه جاهد للفرار من سجنه والتجأ إلى آسيا أو مكة، لم يغر العرش ذلك الملك البائس بشيء من مغرياته؛ لأنه كان يعشق العزلة والانقطاع إلى العبادة، ولا بد أن يكون قد عرف أن بقاءه بالأندلس سيشجع مطامع أنصاره، وأن ذلك سيؤدي حتما إلى النزاع والتفرقة، فمن المعقول إذا أن يكون قد آثر أن يقضي بقية أيامه بمكة للعبادة والتبتل.
ثم ظهر دعي يشبه هشاما تمام الشبه، وزعم أنه هشام المختفي وادعى ملك إشبيلية، فاعترف به حاكمها؛ لأنه رأى فيه لعبة صالحة في يديه
2
ولكن هشاما الحقيقي اختفى إلى الأبد ولم يسمع إنسان عنه شيئا بعد اختفائه.
والذي جرى لهشام المعتد بالله عند عزله يصور لنا ما وصل إليه خلفاء بني أمية التاعسون من الذلة والمهانة بعد أن تركوا زمامهم للبربر المتوحشين، أو الصقالبة يلعبون بهم كما يلعب بقطع الشطرنج؛ فقد أمر رؤساء قرطبة أن يجر هذا الخليفة الرفيق الرقيق العاطفة هو وأسرته إلى سجن تحت الأرض مظلم متصل بجامع قرطبة، فجلس الخليفة في هذا السجن الدامس الظلمة يرتعد من البرد ويتسمم بهوائه الفاسد من العطن، وقد احتضن ابنته الصغيرة وأحاط به نساؤه يبكين ويولولن ويقضقضن في زمهرير قارص، وقد اشتد الجوع بالسجناء بعد أن تركهم السجانون القساة ساعات دون أن يفكروا في إطعامهم، ثم جاء الشيوخ ليبلغوا هشاما حكم المجلس الذي اجتمع في عجلة ليفصل في أمره، ولكن الخليفة المسكين الذي كان يجهد في أن يبعث شيئا من الدفء إلى ابنته التي كان يحملها بين ذراعيه قاطعهم قائلا: «نعم نعم، إني سأخضع إلى حكمهم كيفما كان، ولكني أسألكم لله تعالى أن ترسلوا إلي شيئا من الخبز، إن هذه الطفلة الصغيرة ستموت بين يدي من الجوع.» فتأثر الشيوخ لأنهم لم يريدوا أن يعذب الخليفة هذا التعذيب، وأمروا فأحضر إليه الخبز، ثم استأنفوا الكلام قائلين: «يا مولانا إن المجلس قرر أن تؤخذ عند الفجر لتسجن في قلعة كذا.»
فأجاب الخليفة: «فليكن، وليس لي الآن إلا رجاء واحد، هو أن تأمروا لنا بمصباح؛ لأن ظلمة هذا المكان الموحش تزعجنا وتخيفنا.» وارحمتاه!! لقد وصل الذل والشدة بحاكم المسلمين الزمني والديني بالأندلس إلى هذا الحضيض وهو أن يستجدي خبزا وشمعة.
3
وأمثال هذه الكوارث كانت كثيرة بقرطبة، فكل ثورة كان لها جناها المر من القتل والإرهاب، فإن أهل قرطبة الذين ازداد عددهم كانوا ينزعون إلى الاستقلال وفرض إرادتهم على الحكام، وهذا الاعتداد بالنفس كان نتيجة ثروة الأمة، ونمو التجارة والصناعة فيها.
Bog aan la aqoon