الحاجب في هذه الفترة رئيس الحكومة، فأعان المنصور على الصعود والترقي في مناصب الحكم، وعمل المنصور في جد وإخلاص على إنفاذ سياسته، وزاد في محبة الأمة لهما ما تجردا له من كسر شوكة الصقالبة وتشتيت كثير منهم؛ لأنها كانت تبغض الجنود الغرباء، ولكن الوفاق بين الرجلين لم يكن طويل الأمد، فإن المنصور كان ينتظر أن يرى طريقه واضحة للتخلص من الحاجب ويتحين الفرص للقضاء عليه من غير تردد أو خشية؛ لأنه كان يريد أن يصل إلى القمة، وأن تذيع شهرته وترتفع مكانته بين الناس.
وقد لاحت له لائحة فاقتنصها في شجاعة وحزم؛ ذلك أن نصارى الشمال عادوا إلى الشغب والمغالاة بقوتهم، ولم يكن المصحفي جنديا فتحير في اختيار من يصد اعتداءهم، والمنصور القاضي لم يكن أمهر منه في إدارة الحرب ولكنه نبع من أسرة قوية النبعة إذ كان أحد أسلافه من العرب الذين صحبوا طارقا في غزو إسبانيا؛ لذلك لم يتردد لحظة ولم يخالجه شك في كفايته حينما طلب أن يقود الجيش بنفسه، وكانت غارته على ليون موفقة، وكان إغداقه على الجنود عظيما، حتى إنه حينما عاد إلى قرطبة لم يكن القائد المظفر فحسب، بل كان موضع محبة الجيش وإجلاله.
ثم جردت حملة أخرى على نصارى الشمال، وكانت القيادة في الحقيقة ل «غالب» قائد الجنود الغرباء، وكان شجاعا باسلا اجتذبه المنصور إليه معتزا بصداقته، فأعلن غالب في صراحة وجرأة أنهم ما فازوا في المعارك إلا بعبقرية المنصور وذكائه، وبالغ في مواهبه وأغرق
7
حتى اعتقد الناس جميعا أن تحت رداء الفقيه القديم نبوغا عسكريا، وكان الأمراء كذلك من غير شك.
وحينما أحس المنصور بالقوة بعد هذه الانتصارات المتوالية وبعد معاضدة غالب له واحتطابه في حبله - أقدم على عزل ابن المصحفي، وكان رئيسا لشرطة قرطبة، وأحل نفسه مكانه فأحسن القيام على الشرطة حتى إن المدينة لم تر في عهودها عهدا استتب فيه النظام، وخضع الناس فيه لأمر الحاكم كما رأت في عهده؛ لأنه كان شديد العنف في الحق، حتى إنه ضرب ابنه حتى مات حينما تعدى حدود الشرع، وما أشبهه بجيونيس برونس
8
الذي كان لا يتجاوز عن صغيرة في تنفيذ القانون، وقد أعلت هذه السياسة من شأنه وزادت في محامده؛ لأنه بعد أن اكتسب قبل ذلك محبة الجيش والأمة فاز برضا المتشددين في أحكام الشريعة.
ونضجت الثمرة وآن له أن يضرب ضربة سياسية جديدة، فأخذ في مهارة يلعب بغالب والمصحفي ويوقع ما بينهما حتى اتسعت شقة الخلف بين القائد المحنك والمصحفي رئيس الوزراء، وكانت الضربة القاصمة أن أغرى القائد على العدول عن تزويج ابنته من المصحفي واتخذها زوجة له، وفي سنة 978م/368ه بعد وفاة الحكم بسنين رمى المنصور بآخر سهم في كنانته، فاتهم المصحفي بالخيانة والسرقة وأثبت عليه ذلك بأدلة كثيرة وألقاه في السجن حيث بقي به خمس سنوات في أسوأ عيش وأذل مكانة، ثم مات أشنع ميتة مسجى برداء ممزق للسجان، ويقال إن المنصور دس له السم، وهكذا كانت نهاية كل من جرؤ على أن يقف في طريق مطامح المنصور؛ فقد آل تعس الطالع بالمصحفي الحاجب إلى الفقر والعار بمكايد هذا الشاب المحدث الذي لم يقف خمول أصله في وجه عبقريته بعد أن وصل الحاجب إلى قمة المجد والسلطان، وجثت الآلاف من الراجين عند قدميه، وحاول ملك ليون المعزول تقبيل يديه.
وفي اليوم الذي قبض فيه على المصحفي جلس المنصور في مكانه، فوصل إلى ذروة القوة وأصبح في الحقيقة حاكما للمملكة الإسلامية بالأندلس، وكانت تتألف حكومة الأندلس من الخليفة ووزرائه، ولكن المنصور قصر الخليفة بالقصر، وطوى الوزراء بآرائهم ومشورتهم في شخصيته العاتية، وكان يحكم المملكة كلها من قصره في أحد أرباض قرطبة،
Bog aan la aqoon