وحرص قبل كل شيء على أن يجرد زعماء العرب الذين لعبوا بالأمراء قبله من كل قوة، فكان رؤساء دولته من المحدثين في النعمة الذين لم يرفعهم نسب ولم تنهض بهم في المجد سابقة، فتوثقت عراهم بسيدهم كما يتشبث الضعيف بالقوي؛ إذ لولاه لداستهم الأسر العربية بالأقدام، ثم إنه حاط ملكه بجيش عظيم جرار، انتقى قواده من خيار رجال حرسه من الصقالبة، وأضاف إليهم رجالا من الفرنجة، وغاليسية، ولومبارديا، وغير هؤلاء من أجناس شتى، وكان تجار الإغريق والبندقية يجلبون هؤلاء الأرقاء ويبيعونهم صغارا للخليفة ليهذبهم وينشئهم في الإسلام، وكثير منهم من أصبح كامل الثقافة شديد الإخلاص لمولاه، وهم يشبهون من نواح كثيرة مماليك خلفاء صلاح الدين بمصر، الذين اختاروهم لحراستهم، والذين بلغوا في النهاية ذروة المجد، فكانوا سلاطين لمصر والشام، نعم يشبهونهم فيما كان لهم من عبيد ينصرونهم، وفي أن الخليفة أقطعهم ضياعا يقوم على زراعتها الخول والعبيد، وفي أنهم كانوا دائما يستجيبون لدعوة سيدهم إذا دعاهم للحرب، فيقبلون مسرعين على رأس أتباعهم وعبيدهم، ثم يشبهونهم في أنهم وصلوا بعد حين من الدهر إلى قمة السيطرة والنفوذ، فاغتنموا فرصة ذبول الدولة وتدهورها بعد موت عبد الرحمن الناصر وخليفته، وأسسوا لأنفسهم دولة، فكان لهم بذلك سهم بين السهام، ويد بين الأيدي التي قضت على حكم الإسلام بالأندلس.
استطاع الأمير مستعينا بالصقالبة أن يطهر البلاد من عصابات السوء، وأن يسل منها روح التمرد، ثم أن يشعل حربا ضروسا على نصارى الشمال ويعود مظفرا منصورا؛ فقد كانت مملكة الإسلام في أيامه مهددة بخطر أشد من خطر الفوضى والثورات؛ ذلك أنها كانت محصورة بين مملكتين متحديتين شديدتي المراس، تتطلب كلتاهما شدة اليقظة والحذر، ففي الجنوب ربضت مملكة الفاطميين في شمال إفريقية متنمرة متوثبة، وكان من الطبيعي أن يذكر حكام الساحل البربري أن العرب قبلهم جعلوا من إفريقية معبرا إلى إسبانيا، كما أن السياسة المتوارثة بين حكام البربر كانت توسوس إليهم دائما أن يضموا - إذا استطاعوا - ولايات إسبانيا المشرقة إلى إفريقية.
ورأى الخليفة أنه لا يستطيع التخلص من الفاطميين أو تجنب شرورهم إلا ببث الفتن وإشعال نار الخلاف بين قبائل البربر، فنجح في ذلك أيما نجاح، وأخضع بدهائه قسما كبيرا من ساحل البربر، وتملك قلعة سبتة الحصينة، ثم إنه خصص مقدارا كبيرا من دخل الدولة ببناء أسطول عظيم، نازع به الفاطميين سلطتهم في بحر الروم.
أما في الناحية المقابلة نحو الشمال، فكان على المسلمين أن يقابلوا عدوا هو أشد من الفاطميين كيدا، وأبعد خطرا؛ فقد نبتت نصارى أستورياس وتأثلت من حفنة من الرجال زاد عددهم في هذه الأيام واشتد ساعدهم، فاعتزوا بالكثرة والقوة، ونما في نفوسهم حافز قوي إلى استرجاع وطنهم المسلوب.
وقصة ذلك: أنهم حينما اصطدموا بالمسلمين عند الفتح، فقدوا صوابهم، وطارت نفوسهم شعاعا، وتمزقوا شذر مذر مذعورين من هؤلاء الشياطين، فالتجئوا إلى جبال أستورياس وأقاموا بها، فكان لهم من قلة عددهم ووعورة الجبال التي نزلوها شفيع ذاد المسلمين عنهم، ولم يجتمع حول زعيمهم «بلاي» في كهف «دونجا» إلا ثلاثون رجلا وعشر نساء، فلم ير العرب أن مثل هذه الطغمة القليلة من الفارين تستحق المطاردة والاقتناص، فتركوهم وشأنهم يقيمون في مغاور هذا الكهف الذي لا ينال إلا من شعب ضيق لا يرقى إليه إلا بسبعين درجة، ودارت الأيام وتعاقبت الأعوام، وهم يتكاثرون ويتناسلون، حتى استطاعوا بعد حين أن يؤلفوا في معقلهم الحصين جيشا تاما.
ووصف ابن حيان المؤرخ نشأة هذه الدولة المسيحية في حزن وأسى فقال :
وفي ولاية عنبسة بن سحيم الكلبي،
2
قام بجليقية علج خبيث يدعى (بلاي) فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثأر، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي من أرضهم، والحماية عن حريمهم، وكانوا لا يطعمون في ذلك، وقيل إنه لم يبق بأرض جليقية قرية لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج، ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (خلايا) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا ممتنعين إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم؟! فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.
ويقول مؤرخ آخر: «كم تمنينا على الله لو أن المسلمين أطفئوا - دفعة واحدة - شرارة هذه الجذوة التي قدر لها أن تلتهم دولة الإسلام بالأندلس!»
Bog aan la aqoon