وقد رأى أكبر مؤرخ للأندلس: «أنه كان من الصعب على عبد الرحمن أن يسلك سبيلا أخرى لتوطيد الحكم بين مشاغبي العرب والبربر، وأنه لم تكن لديه وسيلة لاجتثاث الفوضى إلا أن يقابل هذه الفوضى بالشدة والعسف؛ لأن كلا الفريقين لم يعتد الحكم المنظم».
ومهما يكن من شيء فإن استمرار ظلم كهذا يخلق جوا من الحزن واليأس على الرغم من بهجة الانتصارات التي تشع في جوانبه.
وقد أعطانا ابن حيان - وهو مؤرخ قديم للأندلس - صورة لأمير قرطبة فقال:
كان عبد الرحمن راجح الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعا مقداما، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغا مفوها، شاعرا محسنا، سمحا سخيا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم.
هذا هو بلا شك عبد الرحمن الشاب قبل أن تجعله المقاومة والدسائس قاسيا جافيا كثير الفزع والشكوك، وللقوة دائما طرق مروعة في عقاب أصحابها.
وكلما مات ملك جبار تساءل الناس: من يخلفه؟ والجواب العام في مثل تلك الحال هو: ثورة وفوضى، إن العرش الذي يثبت على رءوس الحراب لا ينتقل في سهولة من الأب إلى الولد، ومع هذا لم تسقط دولة عبد الرحمن بموت مؤسسها المستبد، وكان من المتوقع أن تثور القبائل المناجزة التي كبح جماحها بمشقة وجهد بعد أن أطلقت من عقالها بموته، ولكن شيئا من ذلك لم يكن؛ لأن الرعب الذي غرسه في قلوبهم كان شديدا، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من هوله، أو لأنهم رأوا في ولي عهده أميرا محبوبا يتحلى بصفات تضاد صفات أبيه؛ فقد كان هشام الذي تولى الملك بعده سنة 788م/172ه، وهو في الثلاثين من عمره - مثالا لجميع الفضائل، وزاده ميلا إلى عمل الخير وبذل العناية في الإصلاح، ما تكهن له به أحد المنجمين من أن ما بقي من عمره لا يزيد على ثماني سنوات؛ لذلك تفرغ الأمير في هذه المدة القصيرة للاستعداد للدار الأخرى، وكان قصره في أيام نشأته الأولى يموج بالعلماء والشعراء والحكماء، فأثرت فيه هذه النشأة، والولد كما يقولون أبو الوالد، وكان له من أعمال التقوى والصلاح ما لا يحصر عدا، ورأى في حماه الغاضبون والمضطهدون معقلا وملاذا، وكان يرسل من يثق به من الوعاظ والدعاة إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعين بالمدن عسسا لمنع الشجار وارتكاب الجرائم، ورأى أن تقسم الغرامات المفروضة على الأشرار يبن الأتقياء الذين لا يمنعهم مطر أو برد من غشيان المساجد، وكان يعود المرضى، وكثيرا ما كان يخرج في الليالي العاصفة وهو يحمل الطعام لمريض من الزهاد، حتى إذا بلغ داره جلس بجانب فراشه يراعيه ويرعاه.
ثم هو مع كل هذا لم يكن جبانا ولا زميلا، بل كان يقود جيشه بنفسه لمحاربة نصارى الشمال، كما يفعل العربي الصميم، ولقبه الناس بالشفيق وبالعادل لسهولة خليقته، ولكنه كان إذا جد الجد، وهددت ملكه مؤامرات أعمامه، ثابت العزم، قاسيا لا يلين، وزاد في عدد حرسه من المماليك، فكان يقف منهم على شاطئ النهر ألف فارس لحراسة قصره ليلا ونهارا، وكان بارعا في الصيد ، شديد التحرج من الشبهات، سمع بعد أن أعاد بناء قنطرة قرطبة الباقية إلى اليوم أن الناس يهمسون بأنه إنما أقام هذا البناء العظيم ليسهل عليه الوصول إلى الصيد، فأقسم ألا يعبر القنطرة مرة أخرى، وقد بر في قسمه، وقبل أن تمر ثماني السنوات اختاره الله إلى جواره تقيا نقيا.
12
وإذا نبت الشر من الخير فإن أعمال هذا الملك الخيرة كانت أكبر حافز على إثارة عامل جديد للثورة والعصيان بالأندلس، ونشأ هذا الخطر الجديد من السلطة التي وضعت في أيدي الفقهاء والعلماء، وقد سميناهم بقساوسة الإسلام، وإن لم يكن هذا الاسم صحيحا؛ لأن الإسلام لا يعرف هذه الطائفة بالمعنى الدقيق الذي تريده المسيحية الكاثوليكية، فليس المسلمون الذين يؤدون الصلاة في المساجد ويخطبون الناس يوم الجمعة إلا قوما عاديين، يؤخذون من متاجرهم أو غيرها من الأعمال ويطلب إليهم في أي وقت أن يؤموا المصلين، فالدين الإسلامي لا يفرق بين رجل الدين وغيره، على أن بالإسلام شيئا يقرب قليلا أو كثيرا مما يقصد من معنى الكهنوت، فإن بالممالك الإسلامية دائما قوما تجردوا للدين وخصصوا حياتهم به، قد يكونون دراويش لهم مذهب ديني خاص، أو طلاب شريعة وفقه، أو أتباعا لإمام مشهور يتحمسون لمذهبه ويذودون دونه، وقد يكونون من حفظة القرآن الكريم أو شيوخا يلقنون الناس العلم، نجد هذه الطائفة في كل أقطار الإسلام، وهي طائفة يخشى جانبها في كل مملكة، فطالما أظهر شيوخ الأزهر بالقاهرة وطائفة الصوفطة
13
Bog aan la aqoon