عقل يلتمس الطريق
1
العقل الذي نؤرخ له في هذه الصفحات، ونحاول الترجمة لمراحل تطوره منذ ظهوره وحتى أوشك على نهاية رحلته، ليس هو «العقل» بمعناه العام الذي تندرج فيه الإدراكات بشتى صورها من مرئي ومسموع، ومن مشاعر الرضا والغضب والحب والكراهية، بل هو العقل بمعناه المنطقي المحدود فيما يسمى ب «الأفكار» - على صعوبة تحديد «الفكرة» ماذا تكون - ولكن الذي نريده هنا بهذه الكلمة ليس هو مجرد التصورات التي ترتسم في ذهن صاحبها عن الأشياء، بل هو ربط تلك التصورات في أحكام عن تلك الأشياء، فإذا ما نسجت تلك الأحكام المتفرقة بعضها مع بعض في منسوجة واحدة، كان لصاحبها موقف معين من الكون، ومن الحياة، ومن الإنسان.
فمتى وكيف استقام لي موقف فكري؟ لقد دفعت بالذاكرة دفعا إلى الماضي حتى أوصلتها إلى أول ما تستطيع استعادته من ذلك الماضي؛ فقدمت لي، أول ما قدمت، طفولة مترددة بين الفزع والطمأنينة، بين الخوف والجرأة، فترتاع من مواقف الحياة لحظة، وتتقحم تلك المواقف في شجاعة لحظة أخرى. فقلت للذاكرة: لا، ليس هذا هو ما أنشده؛ فالذي تقدمينه هو «حالات» وجدانية وسلوكية، وأما ما أنشده فهو «أفكار» أو هو ضرب من «الأحكام» على الكائنات والمواقف، سواء اتسقت تلك الأحكام بعضها مع بعض في رؤية واحدة وشاملة، أم كانت ما تزال فرادى لم تنخرط بعد في عقد واحد.
فقدمت الذاكرة بعدئذ صورا من مرحلة المراهقة، فرأيت غلاما تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل، فماذا يكون شأنه مع غلام لم يبلغ من عمره الخامسة عشرة؟ فقلت للذاكرة مرة أخرى: لا، ولا هذا هو ما أنشده؛ لأنك ما تزالين تقدمين لي «حالات» وجدانية لا أفكارا ذهنية تربط التصورات العقلية بعضها مع بعض في إحكام، يمكن الاستدلال منها، أو يمكن قبولها ورفضها على ضوء الخبرة.
فراحت الذاكرة بعد ذلك تبحث في طوايا الماضي حتى وقفت بي عند سنة 1925م، وكان لي من العمر عامئذ عشرون عاما، وهناك أوقفتني عند «عقل» يأخذ ولا يعطي؛ فهو يأخذ أشتاتا من الأفكار يعرضها كاتبوها في الكتب والصحف والمجلات، ولم يكن هؤلاء العارضون جميعا من لون واحد؛ وعندئذ رأيت أمامي شابا نهما لا يريد لفكرة واحدة مما يكتبه الكاتبون تفلت منه، فأخذ يتعقب كل ما تجري به الأقلام في ذلك المضمار على كثرته وغزارته وتنوعه.
لكن الذي يستوقف النظر في ذلك الشاب وهو يتصيد أفكار الكاتبين، أنه مع إفساح صدره لكل ما يصادفه في الطريق - حتى ولو كانت أفكارا ينقض بعضها بعضا - إلا أنه كان أشد اغتباطا للفكرة التي تنطوي على ثورة تهدم المألوف، فإذا صادف - مثلا - فكرتين عن شعر أحمد شوقي، تقول إحداهما إنه شعر يسلك صاحبه مع فحول الشعر، وتقول الأخرى إن شوقي لا هو شاعر ولا هو شبه شاعر (وهي عبارة قيلت بنصها هذا)؛ أسرع صاحبنا الشاب إلى هذا الحكم الثاني يجعل له من نفسه مكانة أعلى من مكانة الحكم الأول في نفسه. وكذلك إذا صادف صاحبنا فكرتين عن امرئ القيس، تقول إحداهما عن الرجل ما تقوله دون أن ترتاب في وجوده أصلا، وأما الأخرى فلا تقول ما تقوله عن امرئ القيس إلا بعد أن تتحوط بالشك: هل كان هنالك حقا رجل بهذا الاسم؟ وهل كان هو نفسه الشاعر الذي ينسب إليه ما ينسب من شعر؟ أقول: إن صاحبنا إزاء هاتين الفكرتين لم يكن ليتردد لحظة في اختيار الثانية ليتمثلها ويدافع عنها وكأنها كانت فكرته.
ولقد كان صاحبنا - في نهمه الفكري من جهة، وفي اختياره للأفكار الثائرة على المألوف من جهة أخرى - ذا حظ حسن؛ لأنه اجتاز بشبابه ذاك فترة غنية غاية الغنى، ثائرة أعنف الثورة، فما أكثرهم أولئك الأعلام خلال العشرينيات، الذين ما انفكوا يوما بعد يوم يهزون العقول هزا بما يعرضونه من أفكار يأتون بها من هناك ومن هنا، وقلما كانت من إفراز عقولهم، حتى لقد أخذت الصورة كلها تتغير أمام صاحبنا عما كان يألف سماعه في مراهقته المبكرة والمتأخرة معا.
فلأول مرة يسمع عن معيار «الوحدة العضوية» في نقد الأدب، والشعر منه بصفة خاصة، فيطبق هذا المعيار - جهد طاقته - على معظم ما حفظه من قصائد الشعر، فإذا هي تتبدى أمامه وقد فقدت كثيرا من سحرها الذي كانت قد فتنته بها وهو في أعوام ما قبل العشرين، وكان صاحبنا منذ تلك السن الباكرة مفتونا بقراءة الشعر وحفظه، ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «العقل الباطن»، وبرجل اسمه «فرويد»؛ وإذن فلم يعد الإنسان هو الإنسان الذي قيل له عنه قبل ذلك إنه يحيا مهتديا بنور العقل؛ إذ أصبح الإنسان في صورته الجديدة كائنا تسيره غريزته ورواسب طفولته. ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «التطور»، وبرجل اسمه «دارون»، وإذن فلم يعد الإنسان - مرة أخرى - مخلوقا فريدا ذا تاريخ خاص به منذ بدايته؛ إذ هو سليل أصل يختلف به عن أصول سائر الحيوان، بل هو حلقة - حتى وإن تكن هي الحلقة الأخيرة والأكثر تقدما - من سلسلة تعاقبت فيها حلقات الحياة الحيوانية كلها.
لأول مرة قرأ صاحبنا عن السؤال الذي يسأل عن القرآن الكريم: أهو أزلي قديم، أم هو حادث نشأ عند نزوله وحيا على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهي المشكلة التي كانت أدت بابن حنبل إلى محنته لقوله عن القرآن إنه أزلي قديم؛ لأنه كلام الله، وكلام الله يكون أزليا مع الله؛ فاشتدت الرغبة بصاحبنا أن يزداد علما بهذه المشكلة العجيبة، ولم يدر أين يجد ما يقرؤه عنها، فانتهز أول فرصة سنحت وسأل أستاذ التاريخ الإسلامي لعله يهديه، وإذا بالأستاذ يتوهم أن الطالب يتحداه بسؤاله ذاك ليكشف مدى إلمامه وعلمه، وقرر أن يحرم ذلك الطالب من نعمة الحضور في محاضراته.
Bog aan la aqoon