ما الذي يثير الضحك والإشفاق معا على شخصية «دون كيخوته»؟ لقد قرأ الرجل عن حياة الفرسان في العصر السابق على عصره، وأعجبته تلك الحياة فيما قرأه عنها، فأراد أن يحياها، فلو كان دون كيخوته يعيش في عصر الفروسية فعلا لما أثار ضحكا ولا إشفاقا؛ لأنه في تلك الحالة رجل يعيش عصره، أما والحالة غير ذلك إذ يعيش الرجل في عصر لاحق، ويريد أن يحيا عصرا مضى، بناء على مادة مقروءة في كتب، فذلك هو ما جعله أعجوبة تدعو إلى السخرية، فكأنما هو إنسان قوامه عبارات وكلمات قرأها وحفظها، وليس قوامه لحما ودما يسلكانه مع الأحياء، وتلك هي صورة صادقة لكل من تنكر لدواعي عصره واهتماماته ومشكلاته، ثم ربط ثقافته بمحفوظات نقلها عن صفحات كتب الأقدمين (راجع مقالة «إنسان من حروف» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
تغيرت ظروف عصرنا عما كانت عليه ظروف العصور السابقة، ولا بد - بالتالي - أن تتغير ثقافة المثقف اليوم عما كانت عليه ثقافة المثقف أمس، تلك بديهية لم تكن تحتاج إلى كاتب يعرضها على الناس ويدافع عنها، لكن فريقا من مواطنينا المعاصرين - ربما كان هو الجزء الأعظم من هؤلاء المواطنين - ما يزال مشدودا بثقافته إلى كتب الأقدمين، بغض النظر عما يعج به عصرنا من حياة جديدة لها اهتماماتها ومشكلاتها التي لم يعرفها أولئك الأقدمون، مما دعا أنصار الجديد إلى الكتابة في تلك البديهية التي لم تكن تحتاج إلى كتابة، وكنت فيما كتبته واحدا من هؤلاء الكاتبين.
كان المثل الأعلى للإنسان العربي القديم هو أن يكون ذا قلب حساس ولسان معبر عن خوالج ذلك القلب، ولقد رسم شاعر قديم صورة ذلك المثل الأعلى في بيت من الشعر الجيد، حين قال:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
أي إن كل ما عدا الفؤاد واللسان، فهو إطار جسدي خلق ليحمل ذلك الجوهر، وترانا إلى يومنا هذا نردد هذا البيت على ظن منا بأن صورة الإنسان الذي كان كاملا فيما مضى ما زالت هي صورة الإنسان الكامل بمقاييس هذا العصر. ولا عجب أن ننفق الشطر الأعظم من طاقتنا في الكلام؛ لأنه بالكلام المعبر عما يدور في أفئدتنا تكتمل الصورة، لكن عصرنا هذا قد جاء يطلب من أهله شيئا آخر هو «العمل» حتى ولو كان صامت اللسان، فوجب على العربي الحديث أن يغير من صورة الكمال التي رسمها له الشاعر القديم، وبعبارة أخرى: فإن ثقافة جديدة تحض على العمل، لا بد أن تنهض وتقوى لتحل محل ثقافة كان محورها فؤادا يخفق بالعاطفة ولسانا يعبر عما خفق به الفؤاد (راجع مقالة «من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
5
لم تكن دعوتي إلى ثقافة الغرب صيحة مجنونة مفتونة بظواهر كاذبة، بل هي دعوة دفعني إليها ما رأيته من مكانة رفيعة للإنسان - كل إنسان وأي إنسان - من حيث إنه إنسان وكفى، فعندئذ قارنت - رغم أنفي - بين ما رأيته هناك، وما كنت أعلمه عن قيمة الإنسان في ثقافتنا المصرية كيف تعلو وتهبط مع درجات السلطة والنفوذ والثراء ونوع العمل. فهل كان يمكن أن أرى ذلك الفارق الشاسع بين الثقافتين وما أنتجه ذلك الفارق من معايير يقاس بها الناس هناك وهنا، دون أن أبحث عن السر لأدعو إلى الأخذ بكل ما من شأنه أن يكسب الإنسان كرامته، وبكل ما من شأنه كذلك أن يدفع بالناس إلى الأمام في شوط الحضارة؟
ولم يكن «السر» الذي كشفت عنه في ثقافتهم سرا واحدا، بل هو عدة أسرار تآلفت كلها على صناعة المجتمع الجديد؛ فهناك العلم وهنالك العمل وهنالك العدل الاجتماعي وهنالك حرية الفرد واعتزازه برأيه وبالطريقة التي يختارها لحياته، وها أنا ذا أضيف صفة أخرى هي روح المغامرة التي تنتهي بهم إلى اقتحام الطبيعة للكشف عن مكنونها، فإذا حصيلة ذلك بين أيديهم علم وابتكار.
وحدث لي أن سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأكون أستاذا زائرا خلال العام الجامعي 1953-1954م، فأردت منذ اللحظة الأولى من رحلتي أن أفتح عيني لأرى كل ما استطعت رؤيته من طرائق التفكير وأساليب العيش عند هؤلاء القوم، وجمعت مشاهداتي وأفكاري التي تجمعت على مدى العام في كتاب «أيام في أمريكا». كانت اليومية الأولى في الطائرة التي أقلتني وعبرت بي المحيط الأطلسي لأول مرة في يوم الأربعاء 16 سبتمبر 1953م، وكان بين ما ورد فيها هذه الخاطرة: «... أطفئت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلحون من مقاعدهم ليناموا ... نظرت إلى المحيط فلم أر محيطا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوا مفضضا، فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسا على السحاب من تحتنا، فأحدث هذا اللون الفضي.
Bog aan la aqoon