لم تكن ظروف الحياة في إنجلترا يومئذ هي ما يعهده الناس في السلم، بل كانت الحرب قد تسربت بآثارها حتى تغلغلت في كل شيء، حتى الدراسة في الجامعات لم تكن ميسرة كل التيسير؛ فعدد كبير من أساتذتها مجندون في القتال، وكان لا بد من إحالة الطلاب إلى الموجود من الأساتذة الذين نسق بينهم العمل تنسيقا يجعل الطالب الواحد ينتقل بين مختلف الكليات؛ فقد تكون إحدى مواده الدراسية في الكلية الجامعة، والمادة الدراسية الأخرى في كلية الملك أو في كلية بدفورد؛ لأن أستاذ تلك المادة هناك ولم يعد موجودا في الجامعة كلها سواه.
كانت الحياة اليومية نفسها عسيرة وشاقة، فكل ضروراتها من طعام وثياب مقنن ببطاقات تموينية، بحيث لا يستطيع الفرد أن ينال أكثر من نصيبه حتى لو كان في خزائنه مال قارون، وكان من الصعب أن تقضي حاجاتك التي تحتاج في قضائها إلى أيد عاملة؛ فمثلا: كانت ساعتي قد أصابها سوء في طريق السفر، ولما أردت إصلاحها لم يكن ميسورا أن أجد محلا واحدا فيه عامل يقوم بالإصلاح المطلوب؛ فقد أغلقت محال الساعات إلا قليلا جدا منها، وهذا القليل نفسه كاد يخلو من العمال ؛ فالجميع هناك في ساحات القتال. ولما عثرت على من يصلح لي ساعتي، قيل لي: عد إلينا بعد ستة أشهر. وحدث لي شيء كهذا عندما كسرت نظارتي، وهكذا قل في كثير جدا من ضرورات الحياة.
كنت قد سافرت إلى إنجلترا قبل ذلك في بعثة صيفية (سنة 1936م)، فكنت على دراية بكثير من أوضاع الحياة فيها، فحدث في أول يوم وصلت فيه إلى لندن هذه المرة أن خرجت من الفندق بعد العشاء، وجعلت غايتي مكانا معينا ألفته في بعثتي الأولى، وأردت إلقاء نظرة إليه لأجدد العهد به، فلما نزلت إلى محطة «المترو» (القطار الذي يشق طريقه تحت سطح الأرض) ذعرت لما رأيته على أرصفة المحطة؛ إذ رأيته أسرة مصفوفة على طول الرصيف ومن طابقين، والرجال والنساء والأطفال - ممن هدمت منازلهم بقنابل العدو - يأوون إلى مخادعهم أو يتناولون طعام العشاء على صورة ينخلع لها القلب؛ لأنها - على الأقل - صورة لم تألفها عين ولا توقعها خيال، فعدت إلى الفندق مسرعا في طرق تملأ السائر رعبا بظلامها.
لا، لم تكن الحياة أول الأمر ميسرة ولا هينة، كانت طائرات الألمان تفاجئ الناس بضرب من القنابل يسمونه ف2، لم يكن يجدي معه صفارات الإنذار والركون إلى المخابئ؛ ففي أية لحظة من لحظات النهار أو الليل تفاجأ بصوت القنبلة يدوي، فلا تدري أسقطت على المنزل المجاور لمنزلك أم سقطت على محطة القطار القريبة، وإذا سمع الدوي ونحن جلوس في قاعة المحاضرة، أو سمع وأنا في مطعم أو في دكان، رأيت كيف يكون رد الفعل لأمثال هذه الأهوال عند هؤلاء الناس الذين خلقهم الله ليتحدثوا همسا وليعملوا صامتين؛ فقد كان الوجوم الذي يرتسم على الوجوه عند صوت القنبلة لا يوقف حركة المتحرك أو حديث المتحدث إلا بضع ثوان، ثم يستأنف كل ما كان في سبيله دون التعليق عما حدث بلفظة واحدة من الشفاه أو لحظة واحدة من العين، كأن شيئا لم يحدث، وكأن جدران المبنى لم يرجها الدوي القوي الفظيع.
ولكنني حتى في تلك الحياة العسيرة الشاقة لم ألبث طويلا حتى أذهلتني فروق شاسعة بين ما رأيتهم عليه وما عهدته في قومي؛ فالفرق شاسع شاسع - كما رأيته يومئذ - بين فكرتهم عن المساواة وفكرتنا عنها ، فماذا أصنع سوى أن أكتب مقالات أسجل فيها انطباعاتي تلك، وأبعث بها لتنشر في مجلة الثقافة في مصر؟ ولكن أي مقالات؟ هي مقالات من نوع فريد؛ فيها رمز، وفيها سخرية، وفيها أدب المقالة على نحو لم يألفه كثيرون من كتابنا فضلا عن القارئين، ثم فيها - فوق الرمز الساخر والشكل الأدبي - شواظ من نار تتأجج في ألفاظها. وكنت صادقا في كل جملة مما كتبت به، وكانت مجموعة تلك المقالات هي التي أخرجتها فيما بعد (سنة 1947م) في كتاب «جنة العبيط».
وكان هذا العنوان «جنة العبيط» هو نفسه عنوان المقالة الأولى في ترتيب الكتابة، وقصدت به أن حياتنا في مصر عندئذ كثيرا ما توصف عندنا بين عامة المتكلمين وكأنها حياة في الجنة، مع أنها في حقيقتها - بالقياس إلى حياة الناس كما رأيتها عند الآخرين - لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط». ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت «القيم» الخلقية وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه.
بدأت المقالة قائلا: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أن الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.»
وأخذت أرسم صورا من حياتنا، هي في حقيقتها من أبشع الصور طمسا لحقوق الإنسان، دون أن نرى فيها شيئا يعاب، وكانت صورة الختام ما يأتي، مما كان يحدث في مجتمعنا بين مخدومة وخادمة: «... أرادت زوجتي - في جنتي - أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم ومخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين من اليوم زينب ، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
بثينة - بالطبع - لماذا تكون منذ اليوم زينب ... كان يأخذني الذهول عندما كنت أرى الخادمة في المنزل الذي سكنت فيه، تجلس على المقاعد نفسها التي يجلس عليها أفراد الأسرة، وقل ما شئت في دهشتي حين رأيت تلك الخادمة جالسة على المنضدة المجاورة للمنضدة التي جلست إليها ذات مساء لأتناول العشاء، فكذلك هي قد جلست هناك لعشائها ... صور مستحيلة الحدوث في مصر كما تركتها في تلكم الأعوام، حيث مقعد الخادمة هو الأرض، وحيث الخادمة لا تعرف لنفسها مكانا مما يرتاده «السادة».»
Bog aan la aqoon