في جهنم الأرض هذه ووسط هؤلاء الوحوش وقعت، وكنت غنيمة طيبة بالنسبة إليهم.
لم يقم أحد بالدفاع عني أو حمايتي، لا من بين المسلمين ولا من المسيحيين، وأسوأ من ذلك أنهم تقاتلوا بسبب الفريسة الطازجة، وانتزعوا لحى بعضهم بعضا، وهكذا خلال شهر عرفت أفظع الإهانات التي يمكن أن يتصورها الإنسان!
واليوم لست نادما على الوقوع في هذه المحنة، فبفضلها عرفت أعماق الكائن البشري، وإذا كنت قد ظللت خيرا رغم كل ما رأيته وكل ما عانيته؛ فإنما ذلك احتراما مني لمن خلق الطيبة وجعلها نادرة، ووضعها بين الوحوش كمبرر وحيد للحياة.
كنت أعتبر نفسي مدفونا حيا وأفكر في الموت، ولقد حدث لمسجونين لم يستطيعوا تحمل التعذيب أن شنقوا أنفسهم في قضبان منافذ الهواء الصغيرة بواسطة الأشرطة التي مزقوها من ملابسهم، بينما كان الجميع ينامون في الليل، وكنت مصمما على أن أفعل مثل هؤلاء الشهداء.
ومع ذلك أخذ صوت داخلي يدفعني نحو الأمل، فقد كنت أعرف أنني لم أعد وحيدا في العالم كما كنت من قبل، فهناك في الخارج رجل ذو قلب صديق نادر، وبالرغم من أنه فقير وبغير حماة، فإنه طيب وذكي ولا بد أنه يفكر في ويعمل على إطلاق سراحي.
وكنت على حق؛ فذات يوم فتح باب الزنزانة ودخل الحارس ومن خلفه باربايني، يا لها من سعادة غامرة! وظهور كيرا وحده هو الذي يمكن أن يضفي علي تلك السعادة، ولكن في نفس الوقت أي حزن، فالشر قد أشعل الشيب في رأس الرجل المسكين، وألقيت نفسي على صدره باكيا، وكل ما ظهر من شفقة أمام هذا المشهد المؤلم هو أن صاح رجل يوناني ممدد على سرير: «آه! أيها الشيخ العزيز أهذا ولدك؟ إنه بضاعة جيدة بالنسبة لهذا المكان! فقد تمتعنا به، وها أنت تأتي لتختطفه!»
إنها أخف عقوبة استطعت أن أحصل عليها، فخطؤك جسيم؛ إذ أردت أن تدخل بالليل إلى الحريم، ومع ذلك لا تحزن فسأصحبك، والعالم كبير وسنكون أحرارا، وإذا استمعت إلي في المستقبل ستكون سعيدا على الأرض التركية ... هيا إلى اللقاء استعد لفجر الغد.
لم أستطع أن أنام طوال الليل، وعند بزوغ الفجر أخرجوني.
وكان على الباب فارسان من الجند مسلحان بالبنادق والخناجر ومعهما عربة، ورأيت عندئذ أننا كنا ثلاثة محكوما علينا بالاستبعاد، وكان باربايني هناك ومعه أمتعتنا، ووضع الكل على العربة وابتدأت الرحلة إلى ديار بكير.
إن حياة الإنسان لا تقص ولا تكتب، وحياة الإنسان الذي أحب الأرض وجاس خلالها أكثر استعصاء على القصص، وعندما يكون هذا الرجل عاطفيا حارا عرف جميع درجات السعادة والبؤس وهو يجوب العالم، فإن محاولة رسم صورة حية لحياته يصبح عملا مستحيلا تقريبا، مستحيلا عليه هو نفسه، ثم مستحيلا بالنسبة لمن يسمعونه، والسحر والطرافة والمتعة في حياة رجل قوي النفس صاخبا ومغامرا في نفس الوقت، ليست دائما في الأحداث البارزة في تلك الحياة، بل في التفاصيل حيث الجمال عادة، ولكن من ينصت للتفاصيل؟ ومن يتذوقها؟ ثم بنوع خاص من يفهمها؟
Bog aan la aqoon