كان رجلا يجيد الكلام ويجيد الصمت، يصدر عن طيبة لا تتحول إلى بله، وعندما لا يروقه أحد كان يرى أن لا جدوى من الإلحاح، وكان يعرف كل لهجات الشرق الأدنى، ويوزع فراغه بين القراءة والتسكع وغسل ملابسه، ولم يكن يدفعني إلى شيء، بل كان يريني فقط ما هو خير ونافع ومن الذكاء أن أفعله، قد تعلمت كتابة وقراءة اللغة اليونانية، ولما رآني متعلقا بحياته - في أمانة - لم يساومني في محبته.
وفي البدء أناديه بلقب «يا سيد»، ولكنه طلب مني أن أناديه ببربا، وبعد قليل أخذت أنسى فقدي لكمري وكنزه الثمين، وأخذت أتحول إلى تلميذ له وصديق وحيد، وعزاء لأيام شيخوخته.
ولكن بقي لي قبل ذلك سفح شاق لأتسلقه، وقد تسلقناه معا.
كنت قد نسيت فقد كمري، ولكنني لم أستطع أن أنسى فقد أختي، وكنت أحب باربايني، ولكني أعبد كيرا، ولما كنت متأكدا من وجودها خلف الباب الذي ضربت عنده فقد وسوس لي الشيطان أن أعود إليه.
كنا في قلب الصيف، وبعد ثلاثة أشهر من النزهة الحزينة في باب توما، وفي غفلة من برباياني قمت بعدة زيارات للفيلا الملعونة، وحومت من بعيد، وتربصت وتجسست، ولكن بلا جدوى، فنساء أخريات كن يخرجن في العربة، وأما كيرا فلا، وشجعني الحذر الذي استخدمته في أن أقرر ذات مساء أن أكون أكثر جرأة، وحصلت على سلم مستقيم، واستعنت بالليل المظلم، وذهبت لأسند السلم إلى جدار مرتفع يحيط بالفناء، وكنت أبحث عن وسيلة أستطيع بها أن أرى داخل الحريم، حيث كنت أعلم أن النساء يرحن ويغدون دون نقاب.
ولكنني لم أجد غير شبابيك مغلقة، وثابرت ودرت حول الحائط، وانتهيت بأن وجدت نافذة مضيئة، ولم تكن غير غرفة كبيرة مؤسسة بأثاث فاخر لا أحد فيها، وانتظرت خافق القلب بأعلى السلم، آملا دائما أن أرى النساء يمررن تحت بصري.
وفجأة فرقعت خشبة السلم التي كنت جالسا فوقها، وأوشكت أن أسقط، وتجمدت من الخوف، وظللت معلقا على نحو ما عندما جاءت هزة مفاجئة عنيفة أراحتني، فقد انتزع مني السلم، وسقطت بين ذراعي جندي البوليس الذي كال لي اللكمات دون أن يتفوه بكلمة واحدة، وشد وثاقي ووضعت في عربة يجرها حمار اقتيدت فورا إلى دمشق، حيث ألقيت في الحجز الاحتياطي.
والحجز الاحتياطي في تركيا ذلك العهد كان جحر النسيان بالنسبة للرعايا العثمانيين، فالشقي الذي يدخله - وبخاصة بسبب الجرائم الكبيرة كجريمتي - لم يكن يعرف قط متى سيحاكم ما لم يجر شخص ذو نفوذ حاملا الهدايا؛ ليضرع إلى أحد الحكام، ولم يكن أقسى ما يعانيه عندئذ فقدان الحرية، بل الحياة الفظيعة التي يعيشها في داخل هذا الحجز، وبخاصة عندما يكون السجان رجلا شابا.
وفي زنزانتي كنا دستة على سرير مشترك مكون من صف طويل من ألواح الخشب العارية يملأ ثلاثة أرباع الحجرة، وفي أحد الأركان جردل من الخشب بغطاء يذهب إليه كل منا لقضاء حاجته، وتنبعث منه رائحة كريهة خانقة، وقمل الجسم وقمل الرأس والبق الذي لا حصر له، والفئران تمرح في فرق، ولم يعد أحد يهتم بقتلها؛ لأن قتلها يستغرق عمرا كاملا!
وأنواع التعذيب البشعة كانت ترتكب تحت أبصار الجميع، فالترك واليونانيون والأرمن والعرب لم يعودوا رجالا، والحقارة الإنسانية كانت على نحو لا تنعقد المقارنة إلا بينها وبين نفسها؛ وذلك لأن الجنس البشري هو وحده الذي يستطيع أن ينحدر إلى مثل هذا المستوى من بين كائنات الأرض كلها!
Bog aan la aqoon